ولكن حدث ما كان ينتظر، وهو أن أعراض الوباء ظهرت بين الجنود، وما هو إلا أقل من أسبوع حتى كان 800 منهم في المستشفى، أما الأطباء والصيادلة فالبعض منهم قد فر من البلاد والبعض الآخر لحق بربه.
وهكذا دب الخلل في كافة المصالح العمومية وأغفلت جميع وسائل الوقاية، وقبل أن يتم التغلب على هذا الوباء الفتاك كان قد ذهب ضحية له 9000 شخص في القاهرة وما يزيد عن 1500 شخص في الإسكندرية، وكان تعداد المدينتين وقتئذ يقدر على التوالي بنحو 300 ألف و90 ألفا.
118
ولم تنتشر الكوليرا هذا الانتشار إلا في النادر القليل ولم تصبح وباء مرة أخرى إلا في سنة 1849م، ولكن التهاب الإبط وتورمها أصبح وباء يثير الذعر في قلوب الأهالي. ولعل من قرأ قصة «أبوتن» يذكر كيف كان من عادة الفرنسيس عند سماعهم بانتشار الأوبئة في الخارج يحبسون أنفسهم في أمكنة منعزلة عزلا تاما عن باقي الناس، هذا بينما كان المسلمون يحاولون بشيء من الغموض أن يتجاهلوا الخطر المحدق بهم، على أن الذين كانوا يخترقون الشوارع مستهترين بالخطر في مثل هذه الأوقات لم يكونوا المسلمين على اختلاف طبقاتهم، كلا فإن قليلا منهم ما عدا طبقة الفقراء الذين كانوا يؤمنون بأن قضاء الله لا مرد له، ولما كانت طبقة الفقراء في فقر مدقع فإن ذلك جعلها أقل حرصا على حياة البؤس واستمرارها.
أما من ساعدهم الرخاء والثروة على تذوق النعيم فقد كانوا أشبه في حرصهم على الحياة بالفرنسيين غير المؤمنين، ولم يكن يسمح لأحد مطلقا حتى ولا القناصل العموميين بزيارة الباشا أو الدخول إلى مخبأه، وأغلقت أبواب المصانع العامة ووقف دولاب العمل وقفا تاما.
119
ولعل أسوأ وباء وأشده فتكا بالأرواح هو الذي أصاب الوجه البحري سنة 1835م؛ فلقد كان في رأي البعض أسوأ بكثير من الطاعون الذي أصيبت به مصر قبل ذلك التاريخ بأربعين عاما. وقد بلغت ضحايا وباء سنة 1835م في القاهرة وحدها 31 ألفا، وذلك في خلال 3 أشهر فقط، ولكن كامبل كان يعتقد أن العدد الحقيقي أكثر من ذلك وفي رأيه أن أكثر الضحايا كان من المسلمين.
وحدث أن الوباء اختطف أرواح 135 فردا من أعضاء إحدى الأسر الكبيرة فأقفلت أبواب دورها كما أقفلت أبواب 200 دار من دور المسلمين، لا لسبب إلا لأن السكان قد حصدهم الطاعون على بكرة أبيهم فلم يبق منهم أحد، وقد هلك من الأقباط نحو ربع عددهم، وهكذا زاد عدد الضحايا بنحو 20 ألفا.
120
ولما كانت القورنتينة هي الوقاية الوحيدة التي كانت معروفة وقتئذ ضد الطاعون؛ فإن الباشا قد لجأ إلى القناصل مرة أخرى ينشد معونتهم؛ إذ لولاها ولولا موافقتهم لتعذر إن لم نقل يستحيل تنفيذ لوائح القورنتينات وتطبيقها على عدد كبير من السفن والملاحين الأوروبيين. ومن ثم اجتمع القناصل وشكلوا منهم لجنة كانت تعرف في أوقات مختلفة باسم مصلحة الصحة أو اللجنة الصحية، وأنشئ محجر صحي بالقرب من الموضع الذي كانت تقوم فيه وقتئذ سكة كليوباترة على شاطئ البحر عند الميناء الجديد أو الميناء الشرقي بالإسكندرية، وعند هذا المحجر كانت السفن الداخلة في القورنتينة تلقى مراسيها.
صفحة غير معروفة