ولم يكن يخطر لأحد أن تكون للامتيازات التركية حرمة في مصر في عهد المماليك؛ لأن الحياة كانت رخيصة ومعرضة للخطر، والتجارة غير منظمة ومضطربة، وبيكوات المماليك في حياة تمرد وعصيان، والتجارة الأوروبية في مصر تافهة؛ بحيث لم تر إنجلترا وفرنسا سببا كافيا يدفعهما إلى محاولة التمسك بحقوقهما النظرية.
وقد ظلت هذه الحالة سائدة أمدا طويلا حتى بعد أن استلم الباشا أعنة الحكم في مصر، ولم يفكر أحد سنوات عديدة في أن يرفع عقيرته بالشكوى الرسمية من القواعد الموضوعة لتنظيم الشئون التجارية مهما بلغت الشكوى في الخفاء.
مع أن المتاعب الجديدة لم تبدأ إلا في خلال العقد الثالث من القرن الغابر، وقد وجه وقتذاك كامبل حملة من اللوم والنقد ضد من سبقه من القناصل لما أظهروه من عدم الاكتراث وروح الإهمال؛ فإن «الكثيرين منهم كان لهم ضلع في الأعمال التجارية أو مدينين لمحمد علي شخصيا، وهذا ما جعلهم يخشونه في التمسك بما لمواطنيهم من حقوق عادلة.» أما القنصل موليه فقد كتب إلى ديلسبس بعد ذلك بعامين خطابا يأسف فيه على ما أظهره الممثلون السابقون من شدة التسامح؛ مما أدى إلى تقييد الأمور وجعل الشكوى متعذرة.
73
ولقد كانت سياسة الباشا التجارية مدفوعة في منشأها وفي مراحلها الأولى بحاجته إلى العثور على المال، وبما في الاحتكار من مزايا ظاهرة كثيرا ما خلبت أنظار الحكام الشرقيين بعدما خلبت أنظار التجار في الغرب، وكثيرا ما رفع صولت عقيرته بالشكوى في سنة 1820م، ثم في سنة 1827م من المساوئ التجارية الناشئة عن مركز محمد علي بصفته التاجر الرئيسي في البلاد التي يحكمها؛
74
فإنه لم يكتف بإرغام الفلاح على الزراعة، بل كثيرا ما حدد نوع المحاصيل التي ينبغي زراعتها في بعض الجهات وأمر بتسليم المحاصيل إلى شون الحكومة في مقابل سعر معين، وبديهي أن مساوئ ذلك النظام أظهر من أن تحتاج إلى بيان، ولكن كان للمسألة وجه آخر؛ ذلك أن موارد البلاد كان يجري استغلالها بشكل لا عهد لها به من قبل. وبهذه المناسبة كتب صولت يقول: «ولا ينبغي أن يفوتنا أن الباشا إلى حد معين قد أنشأ كافة مواد الإنتاج الطيبة التي أصبحت الآن أهم مواد التصدير كالقطن والنيلة والسكر، وباستعمال الحكمة في تخصيص مبالغ كثيرة لإصلاح كثير من نواحي الصناعة، وهي تلك النواحي التي كان الفلاحون لا يجدون الوسائل الكافية ولا الرغبة اللازمة لإصلاحها.»
75
وأدخلت كذلك زراعة الخشخاش فيما بعد في كثير من نواحي الصعيد، كما غرست أشجار التوت وأنشئت المصانع لتكرير السكر وتقطير الروم.
وأنشئت في رشيد مدبغة لسد حاجة الجيش من الأحزمة والأحذية والسروج،
صفحة غير معروفة