هكذا تفصح الصحراء الغربية عن مكنوناتها شيئا فشيء لنعرف عن الماضي والحاضر والمستقبل شيئا مفيدا . (3) واحة الفرافرة: المقومات وتجربة الاستصلاح الزراعي في التسعينيات
تمهيد
في نوفمبر 1995 صحبت إحدى أسابيع الدراسة الميدانية للبرنامج البحثي بين جامعتي عين شمس وهلسنكي الفنلندية لدراسة ظواهر مورفولوجية لعصور قديمة في الواحات المصرية، وكانت الدراسة في واحة الفرافرة. الشكر واجب للبرنامج البحثي، والورقة التالية هي نتائج استطلاعات الدراسة التي قمت بها، وفيها الكثير من الاستفهامات والإيماءات لمزيد من الدراسة لمن يريد المتابعة والتمحيص بعامة أو في نقاط معينة. (3-1) الفرافرة ما هي؟
هي آخر المعمور المصري في وسط الغرب. اسمها غير مألوف في العربية كأسماء الواحات الأخرى الأكثر ألفة والمعبرة عن علاقة مكانية. ويضاهي الفرافرة في غرابة الاسم واحة سيوة، لكن سيوة اسم مطروق على الأخص منذ تنصيب إسكندر المقدوني ملكا فرعونيا من خلال طقوس الإله آمون في معبده، الذي كان شهيرا في واحة سيوة لدرجة أنها كانت تعرف أحيانا باسم واحة آمون.
وهناك أسطورة سائدة بين سكان الفرافرة أن هذه التسمية ترجع إلى ملك قديم يقال له: «فرفور»، وأنه كان هناك ملكان آخران في الجوار أحدهما الملك حنس والآخر الملك أبو منقار. ولعل الأسطورة تشير إلى وحدات سياسية أو عشائرية قبلية قديمة بمقتضاها كان حكم فرفور في منطقة الفرافرة المركزية، بينما كان حكم أبو منقار في ذلك المنخفض المستقل الغني بالماء والذي يبعد نحو مائة كيلومتر جنوب الفرافرة، وتكتنف السير فيه مصاعب من كثيف الرمال ووعورة المنحدرات. أما الملك حنس فيشير إلى وادي حنس شمال شرقي الفرافرة بنحو مائة كيلومتر، وهو الوادي الذي يرسل إليه أصحاب الإبل إبلهم لمرعى الشتاء والربيع إلى نحو وقتنا هذا، وبالتالي فلعل حنس تشير إلى تنظيم عشائري رعوي قديم.
وتحمل أسماء الظاهرات الاستيطانية القديمة أسماء فيها رنين لغة البربر أو لهجات شمال أفريقيا. مثال ذلك أسماء العيون: عين أبشوي وعين فالاو وعين أبساي وعين شميندة وعيون قلقام والهاقة وهيدية والعكوة ... إلخ، ولعل ذلك يشير إلى أصول بربرية لمؤسسي الاستقرار في الفرافرة على نحو ما نعرف في سيوة، وموقع الواحتين في غرب مصر هو الأكثر مواجهة لمواطن شعوب شمال أفريقيا طوال الحقب. ولنا عودة للموضوع فيما بعد قليل. (3-2) التجمعات السكنية في الفرافرة
التجمعات الأصلية لسكان الواحة قليلة معظمها في قصر الفرافرة، وقليلها في واحة صغيرة جنوبها تسمى حطية الشيخ مرزوق . أما باقي التجمعات السكانية فهي حديثة أقامها مستثمرون من الوادي والدلتا من خلال جمعيات تعاونية. وهناك أسماء مستوطنات حالية بعضها يشير إلى المكان الواحد باسمين: مثلا مستوطنة اللواء صبيح كانت هي بئر سبع، ومستوطنة النهضة تشمل مستوطنتين هما: عائشة عبد الرحمن وعبد المجيد الدغيل، والأخيرة كانت تعرف أيضا باسم عين النص التي هي عين رومانية قديمة في مكان يبعد الآن عن الدغيل بنحو كيلومترين إلى الشرق. هذه التقلبات تعكس غالبا مراحل تنموية وتسميات تكريم لشخصيات أدت للواحة خدمات مشكورة. بينما أسماء أخرى تعبر عن آمال وطموحات المستقبل مثل الكفاح والنهضة والأمل، وأسماء أماكن مصرية مثل أبو الهول وبلقاس، أو أرقام أحواض زراعية مثل زراعة 3 أو 5 ... إلخ، وكلها أسماء فترة الاستزراع المعاصرة.
السؤال المطروح هو هل يؤدي التوسع العمراني الزراعي الحالي إلى إنشاء مجتمع مندمج من المجتمعات المختلفة الحالية المكونة من الواحي الأصلي والمهاجرين القادمين من واحات الوادي الجديد ومن وادي النيل والدلتا، أم ستظل المجتمعات متفرقة عدة أجيال؟ (3-3) جغرافية المكان والصفات العامة
تحتل منطقة الفرافرة حوضا نائيا بين ذراعين من أذرع بحر الرمال العظيم، الذراع الشمالي يمتد عند عين دله في ألسنة داخل وادي الأبيض شمالي كتلة هضبة القس أبو سعيد الذي يحيط بها بحر الرمال من الغرب ويمتد جنوبا إلى منخفض أبو منقار، حيث يمتد الذراع الجنوبي لبحر الرمال فيدخل جنوب حوض الفرافرة ويستمر شرقا إلى ما بعد بئر كروين. ونستطيع أن نقول: إن هضبة أبو سعيد شكلت حماية غربية لحوض الفرافرة. وترتفع هذه الهضبة إلى نحو 200-250 مترا فوق منسوب حوض الفرافرة الذي يرتفع في المتوسط بين 60-110 مترا فوق سطح البحر. وتمتد الهضبة في محور شمال شرقي-جنوب غربي لمسافة نحو 70 كيلومترا، وعرض بين 20-30كم. وهي بذلك ظاهرة طبوجرافية قوية الظهور خاصة وأنها تنحدر إلى الحوض في صورة حائط مستمر قليل التدرج وقليل النتوءات، تظل في مواكبة الرائي في تجواله شمالا أو جنوبا على طول الطريق الوحيد الموازي لحائط الهضبة على مبعدة نحو 12-15كم شرقي الحافة. والسؤال هو هل للهضبة هيدرولوجيا دور في إمداد الحوض بالمياه الجوفية؟ والمراقب لتوزع العيون التقليدية أو آبار الاستصلاح الجديدة لا بد له أن ينتظر نتيجة دراسة لم تتم بكفاية عن الخزان الجوفي في المنخفص والهضبة معا.
أما الحوض فيأخذ شكلا بيضيا محوره شمال شرقي-جنوب غربي بامتداد يزيد قليلا عن 110كم وعرض يتراوح بين 40كم في نطاقه الأوسط إلى نحو 10كم في طرفه الشمالي الممتد صوب الواحة البحرية. ويرتفع الحوض تدريجيا من نحو مائة متر عند نطاق الواحة المركزية إلى كنتور 200 متر في قطاعه الجنوبي؛ تمهيدا للدخول في خط تقسيم المياه بين منخفضي الفرافرة وأبو منقار - أعلى نقط في الفاصل بين المنخفضين هي 287 مترا، وفي شرق منخفض الفرافرة يوجد منخفض صغير يحدده كنتور 100 متر حول بئر كروين وبئر مر، وهو المكان الذي تقترحه بعض الدراسات لإقامة مشروعات استصلاح زراعي أخرى، وربما يكون قد تم التعاقد على إعداد بعض هذه المساحة، علما بأن طريقا مرصوفا طوله نحو 60كم قد ربط المنطقة بالقطاع المركزي في الفرافرة. (3-4) أقسام الواحة
صفحة غير معروفة