أم هل لا بد له أن يقع وتبدأ دورة جديدة ربما من الصفر في حالة وقوع كارثة؟
أم يبدأ من حيث انتهينا ولكن بكثير من التواضع بديلا للعجرفة السائدة تحت شعار قوة قدرات الإنسان الإبداعية؟
وقوع الكارثة غالبا تحدث مصادفة، كأن يلعب العلماء لعبة الاستنساخ تحت تأثير وتمويل محرك سياسي، هو غالبا عنصري الهدف لتغليب سلالات معينة على أخرى، أو قد تقع الكارثة نتيجة ازدياد الجوع بين الشعوب الفقيرة، ومن ثم هلاك الملايين برغم مساعدات إنسانية تظهر أحيانا بين بعض منظمات الشعوب المتقدمة. وأيضا بالإضافة إلى التفضل على دول العالم الثالث بالمساعدة على إنشاء صناعات هي غالبا ملوثة للبيئة وصحة الإنسان، ولم تعد تحتمل شعوب الدول المتقدمة وجودها بين ظهرانيها، أو صناعات تحتاج أيدي عاملة كثيفة رخيصة غير موجودة إلا بين الدول المتخلفة أو النامية!
النموذج الحي لهذا التصور هو العلاقة بين الإنسان وتقنيته في ابتداع مصادر الحياة من المياه العذبة - أمطار وأنهار - لتنمية وتطوير أشكال عملية إنتاج الغذاء النباتي والحيواني. هذه العلاقة قد تتجمد عند شكل حياتي معين لفترة طويلة - كاستمرار الزراعة وتربية الحيوان من عشرة آلاف سنة وحتى الآن - أو نتيجة العزلة المكانية مع تفاعل حضاري بسيط مع الجيران، كما حدث لعدد من شعوب العالم الثالث وبخاصة في أفريقيا، أو قد تقصر فترة الجمود المجتمعي نتيجة اكتشافات جديدة في عالم المعادن والطاقة، أو تطوير استخدامات المياه لري أراض جديدة أو نتيجة الحروب التي تسرع بالتقاء الثقافات والحضارات برغم بعض الدمار الناجم عن الصراع الحضاري والإمبريالي، أو إلى آخر ذلك من الأحداث التي تكتنف حياة المجتمعات والشعوب على مر الزمن من حيث زيادة أو تناقص أعداد السكان، والجمود أو الانفتاح الحضاري والثقافي وموارد المكان والعلاقات المجالية الناجمة عن التبادل التجاري؛ لأن المجتمعات - حتى القديمة منها - لا تتمتع مكانيا بوجود كل الموارد اللازمة للمنسوب الحضاري الذي يعتاده المجتمع في تغيره كل زمان على حدة. (2) المجتمعات البدائية: المساواة والحس البيئي العالي
أوثق العلاقات بين الإنسان والبيئة هي العلاقة مع المياه العذبة التي هي نتاج تفاعل الدورة الهيدرولوجية العالمية التي تسبب الأمطار وجريان الأنهار، وتكوين البحيرات والمستنقعات والمناطق الرطبة الدائمة، وتكوين الغطاءات الجليدية بتناقص درجات الحرارة، وتكوين المياه الجوفية نتيجة التسرب داخل مسام الصخور، ثم عودة ظهورها في صورة ينابيع متدفقة دافئة أو باردة تسيل أنهارا ونهيرات ترعى مع الأمطار عالم إيكولوجي قاعدته أعشاب وأشجار فوقه عالم الحيوان العاشب وفوقهما عالم الحيوان اللاحم المفترس.
والإنسان القديم يرى نفسه جزءا من هذا الهرم الإيكولوجي يتنافس مع الحيوان اللاحم لصيد الفرائس، وينافس الحيوان العاشب في غذاء من الجذور والأوراق والثمار، لم يغتر البدائي بقدراته التي تتشكل تجريبيا من ممارسات يختزنها عقلا ويطبقها نمطا - وإن كان يضيف إليها تنويعات نتيجة ظرف طارئ أو موقف جديد مناخي أو بيئي بصفة عامة؛ لهذا لم يكن ينظر لنفسه - كما هو الآن - على أنه يقف على قمة الهرم الإيكولوجي، بل واحدا من عناصره متجاوب تماما لشروط بيئته ... لهذا استمر البشر منتشرين هنا وهناك جزءا من البيئة مئات آلاف السنين حتى تحول من مستهلك إلى منتج للغذاء، فكان ما كان من متغيرات أحداثها لم تقتصر فقط على البيئة الطبيعية بل أيضا على تراكيبه وقيمه المجتمعية، سنذكرها بعد قليل.
الخلاصة أنه في ماضي الإنسانية البعيد عاشت المجتمعات ضمن معطيات الأنظمة البيئة المتعددة ونادرا ما عاندتها ولوت ذراعها، وإلا كان نصيبها الفقر والمجاعة والاندثار، يشرب الإنسان ويجمع النباتات البرية وثمارها ويصيد السمك والحيوانات البرية التي يستسيغ لحمها. وإذا أفرط في الشغف بمورد غذائي شجري أو حيواني أو سمكي معين تتصدى للمجتمع آلية «الشامان» رجل الشفافية مع العالم غير المرئي، فيفرض «تابو» (تحريم) إلهي أو رؤى من أرواح السلف تمنع تناول هذه الأنواع المهددة بالاندثار نتيجة الإفراط في جمعها أو بالصيد الجائر، وبعبارة أخرى كانت لدى المجتمعات القديمة آليات تحترم النظام البيئي؛ لأن تخريبه بالتجاوزات يؤدي إلى افتقار المجتمع ويضطر معه إلى الهجرة بحثا عن موطن آخر. (3) الزراعة والاستقرار: حضارة الملكية الفردية والمجتمع الأبوي
ثم اكتشفت النساء الزراعة، بحكم أن تقسيم العمل كان يقتضي ذهاب الرجال عدة أيام إلى عمليات الصيد البري المحفوفة بالمخاطر، بينما كان على النساء البقاء في الموقع السكني لرعاية الأطفال وجمع الثمار والجذور النباتية والحبوب البرية للغذاء اليومي الدائم؛ ولهذا فإن احتكاك المرأة بعالم النبات قد جعلها تلاحظ كيف تنمو البذرة البرية إلى نبات، فقلدت هذه العملية الطبيعية ونجحت في الحصول على المحصول المفضل من الحبوب، ولكن سرعان ما ازداد تأمين العيش باستيلاء الرجال على مهنة الزراعة، ومعها استأنسوا حيوانات صارت أليفة هي الأغنام والأبقار ودواب الحمل والانتقال، وبذلك كف الرجال عن نشاط الصيد إلا في حالات خاصة ربما مرتبطة بطقوس هي فاتحة مواسم الوفرة الغذائية مضاف إليها شكر للآلهة.
ومع انتشار الوفرة المزدوجة من الزراعة أو تربية الحيوان، أو هما معا ظهرت قيمة الأرض والضرع وأصبحت ملكا فرديا متوارثا يتصرف فيه المالك بكل أشكال القانون السائدة بعد أن كانت ملكا مشاعا لكل أفراد العشيرة، ومعها زاد عدد السكان لأسباب منها الوفرة الغذائية المنتجة تحت اليد، ومنها تناقص الوفيات نتيجة قلة المخاطر المرتبطة بالصيد، وقلة مخاطر الوفيات لنقص الطعام أو سوء التغذية، وأخيرا منها رغبة جامحة في حفظ الميراث للأبناء والدفاع عنه بكثرة الولد من تعدد الزوجات، وأشياء أخرى كثيرة متراتبة شكلت في النهاية حضارة المجتمعات الأبوية أو الذكورية التي امتدت إلى اليوم، وتناهضها النساء الآن للعودة مرة أخرى إلى المساواة التي ميزت البشرية البدائية مئات الآلاف من السنين ...
ونتيجة كل هذا الشيء من المتغيرات حدثت متغيرات أخرى في وظائف أفراد المجتمع، أهمها تحول بعض الرجال إلى إدارة التنظيم المجتمعي المتنامي والدفاع عنه ضد غائلة الشعوب الطامعة في تلك الوفرة، وهو أول ظهور التنظيم السياسي في المجتمعات. بعض الشعوب فضل أن يكون الرأي لكبار السن وحكمائهم نتيجة تجاربهم الحياتية أدى إلى استقرار مجتمعي نسبي ينمو داخل أطر قيمية شبه ثابتة، ومن ثم فالتغير عندها بطيء يحتاج إلى قادح إيديولوجي
صفحة غير معروفة