بداية التركيب الإقليمي في أقسام إدارية ربما يعزى إلى عاملين أساسيين - من بين مجموعة عوامل أخرى يبرز بعضها في مكان وبعضها الآخر في مكان آخر كمسببات نهائية لتميز إقليم عن غيره:
العامل الأول هو تطور أو تغيير سريع في شكل الاقتصاد والعمران وسوق العمل.
العامل الثاني هو قدر وقدرة خطوط الحركة والاتصال - الطرق على تعددها ووسائل انتقال المعلومات - على استيعاب عملية النمو أو التنمية، بل وسبقها بتكوين بنى تحتية تهيئ لمزيد من النمو.
وفيما يختص بالعامل الأول نجد أن المراحل الأولى من تغير أشكال الإنتاج - مثلا التغير إلى محاصيل السوق أو بدايات صناعة ما - تتأثر بقرار يتخذه المتنفذون في الإقليم من كبار ملاك أو تجار أو صناع. مثال ذلك كفر الزيات التي بدأت بجسر السكة الحديد وكمركز إقليمي لبورصة قطن في غرب الغربية والمنوفية وجنوب البحيرة، ومن ثم جاء التوجه إلى صناعات أولية للقطن - كبس وحلج - ثم زيوت البذرة. ومنذ ذلك أخذ سوق العمل طابعا جديدا يبدأ في مزيد من التغيرات التنظيمية لقطاعات الإنتاج والعمالة والملكية والنقل والإدارة. وبتأصيل هذه الجذور تتهيأ الأرض لصناعات موازية أو مكملة أو تابعة، وكلها في إطار إيديولوجية الإنتاج الجديد.
وحتى لو حدث اضطراب عمراني جذري بسبب حرب وهجرة السكان فإن الطابع الذي نشأ يعود بطريقة تلقائية إلى الإقليم بعد انتهاء حالة الاضطراب. فقوة التقاليد في سوق العمل تساوي قوة استمراره برغم تعثره مؤقتا. مثال طيب على ذلك منطقة القناة. فتوجهات سوق العمل في السويس (صناعة )، وبورسعيد (تجارة ترانزيت)، والإسماعيلية (إدارة وياقات بيضاء) عادت إلى ما كانت عليه بعد انقطاع نحو عشر سنوات (67-1976) من الحرب والهجرة. ولو كان هناك تخطيط شامل لمنطقة القناة واقتناص فرصة إعادة البناء بعد دمار الحرب لكانت الوظيفة الصناعية بمواصفات وشروط ميسرة للاستثمار القومي وغير القومي قد أضيفت إلى بورسعيد بدلا من التجارة الحرة أو جنبا إلى جنب معها، مع استغلال تسهيلات النقل البحري لتصبح بورسعيد مركز التسويق للسلع المصنعة وشبه المصنعة والمجمعة بترخيصات عالمية إلى إقليم شرق المتوسط والبحر الأحمر فضلا عن السوق المصرية الكبيرة.
الثورة الاقتصادية الأولى في مصر الحديثة، والتي أدت إلى التشكيل الإداري الذي نحتفظ بجزء كبير منه للآن، بدأت في النصف الثاني من ق19 بمنشآت الري الدائم التي دشنها محمد علي بالقناطر الخيرية، والتي توجها في بداية القرن سد أسوان وعمليات تعليته مرتين. هذه الأعمال الهندسية كانت تعبيرا عن سياستي التوسع الرأسي للمساحة المحصولية والتغير إلى إيديولوجية محاصيل السوق - القطن بصفة مميزة، وقد شابه أثره في مصر أثر البترول على دول الأوبك، وإن كان القطن قد استمر فترة أطول ومهد لصناعات عديدة حوله.
والنقلة الاقتصادية الثانية في مصر بدأت بالدعوة للتصنيع في الثلاثينيات من هذا القرن. لكن الدفعة الحاسمة في رفع مساهمة الصناعة من الناتج المحلي العام إلى نحو مرة ونصف قدر مساهمة الزراعة الآن، بدأت في الستينيات مع سياسة التصنيع الشاملة. وبرغم أن مقدمات السد العالي كانت استكمالا واستمرارا لفكرة التخزين القرني لمياه النيل - التي سادت حتى الخمسينيات - إلا أن السد العالي كان يتوجه بصفة أولى إلى تدبير الطاقة الكهربائية كمحرك أساسي لكهربة المدينة والقرية ومفهوم أساسي للصناعة - تطبيق لفكر كهربة الاتحاد السوفيتي في الثلاثينيات. وفعلا أدى شيوع الطاقة الكهربائية إلى تكوين البنية الأساسية للتحولات الحضارية والمهنية في القرية المصرية.
لكن عصر الهدف الواحد من مشروع ما كان قد ولى . ولهذا كان للسد العالي هدف ثان يدعم التوسع الأفقي للمساحة المزروعة كبديل لفكر التوسع الرأسي. والحقيقة أن أحد مكونات السد كان التوسع بالري الدائم في أقاصي الصعيد ، إلا أن التوسع الرأسي كان قد بلغ منتهاه في مصر وبدرجة قياسية على المستوى العالمي. ومن ثم كان العود إلى أفكار الاستصلاح والامتداد الأفقي في حواجر الصعيد وهوامش الدلتا.
أما العامل الثاني وهو دور النقل، وبخاصة النقل البري، في التنمية الحديثة فإننا نجد في العلاقة بين المدينة والريف وهجرة الريف للمدن وسقوط عزلة الريف مجالات جيدة في التعرف على دور السيارة بأنواعها.
لقد مهد نمو السكك الحديدية المصرية والسكك الحديدية الضيقة بنية تحتية للنمو الاقتصادي والحضاري المصري منذ منتصف القرن الماضي - مواكبا ومساعدا للتغيير مع نمو نظام الري الدائم. ومع قدر التغيرات الاقتصادية والصناعية منذ نحو منتصف هذا القرن سقط دور السكك الحديدية الضيقة في الريف - الدلتا والفيوم، كما انتهت عقود شركات النقل البري الأجنبية؛ لقصورها عن تلبية احتياجات الانتقال المتزايدة بين الريف والمدينة. ومع توجهات واعية بتقليل الفوارق بين الريف والمدينة، وبتأثير المزيد من احتياجات النقل، مدت شبكة الطرق البرية الأساسية والفرعية الأسفلتية والممهدة، مما أدى إلى تيسيرات هامة في استخدام أعداد متزايدة من سيارات النقل العام والسلعي والسيارات الخاصة. وما زال هناك ضغط لمزيد من الطرق بين الريف والمراكز الحضرية والعواصم الإدارية والمدن المهيمنة.
صفحة غير معروفة