مصر: نسيج الناس والمكان والزمان

محمد رياض ت. 1450 هجري
157

مصر: نسيج الناس والمكان والزمان

تصانيف

وفوق المعارضة البيئية والشعبية فإن للتراجع أسباب اقتصادية مرتبطة بالإسراف في حجز المياه أمام السدود وتحويل بعض الأنهار في قنوات جديدة من أجل استزراع أرض جديدة. وقد أدى هذا إلى عدة متغيرات في مائية الأنهار منها تراكم الإرسابات - ظاهرة الإطماء - في بحيرات التخزين، مما يقلل سعتها وكمية الماء المخزون على مر السنين ويفقد بذلك الغرض الأساسي من بناء السدود. (4)

استمرار مناسيب المياه في النهر على مستوى ثابت من أجل توفير مياه الري طوال السنة، قد أدى إلى ارتفاع منسوب الماء الجوفي إلى حدود غير مرضية تصل في حالات إلى ظاهرات «تطبيل» وتمليح التربة وفقدانها لخصوبتها، وهو ما يحتاج إلى تكلفة كبيرة لصرف المياه بالطلمبات الضخمة وشبكات مصارف معمقة تستوعب مساحات من الأرض الزراعية. بينما كان كثير من المياه الباطنية ينصرف طبيعيا إلى مجاري الأنهار والقنوات الرئيسية عندما يهبط منسوب الماء فيها أثناء فترة انخفاض المياه بعد الفيضان الطبيعي للأنهار. (5)

وفضلا عن هذا فإن المياه الرائقة التي يسمح بمرورها وراء السدود هي غالبا ذات درجات حرارة أبرد نوعا؛ لأنها تنصرف من الأقسام التحتية من جسم مائي كبير، وهو ما يؤثر على بعض خواص النظام البيئي في الأنهار. وفي الولايات المتحدة كثير من الاعتراضات على السدود وبخاصة على أنهار الباسيفيك، مثل نهر كولومبيا وسنيك؛ لأن السدود تؤثر بشدة على مرابي أسماك السلمون. (6)

كما أن المياه تفقد الكثير مما تحمله من الطمي والعناصر المخصبة والمغذية للحياة المائية والأرض الزراعية، وهو ما دعا إلى زيادة استخدام كل أشكال المخصبات الكيميائية، ورفع بذلك كلفة الإنتاج الزراعي فوق قدرات الفلاحين الفقراء. (7)

كل هذه الإشكاليات - بالإضافة إلى ديون البنوك الزراعية وأعباء التسويق - ترتب عليها أولا: ازدياد أعداد فقراء الريف ونزوحهم إلى المدن حيث أصبحوا عبئا اجتماعيا اقتصاديا فهم غير مؤهلين مهنيا واجتماعيا. وثانيا: اضطرار حكومات الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا إلى دفع إعانات للمزارعين كي تتعادل دخولهم مع مناسيب الدخل العام داخل كل بلد، وهو ما أصبح من الأعباء المالية التي تعاني منها تلك الدول إلى جانب التأمينات الاجتماعية ضد البطالة ...

ومرة أخرى باختصار فإن السدود الكبيرة لم تأت بالناتج المرجو الموازي لتكلفة بنائها وصيانتها، ليس فقط من النواحي الاقتصادية التي أسلفنا بعضها، بل نتيجة لإضافة أعباء مالية ونفسية عديدة ناجمة عن نقل مئات الآلاف من الناس من قراهم ومساكنهم التي تغرقها مياه بحيرات التخزين وبناء مستوطنات جديدة في بيئات جديدة، وضرورة تغيير نشاطهم المهني وعاداتهم الاجتماعية. وربما زاد عدد المنتقلين من مواطنهم التي أغرقتها مياه السدود الكبيرة في العالم عن نحو خمسين مليونا في العالم. وبعض هؤلاء اضطروا إلى النزوح الجبري بقوة الشرطة كما حدث في الهند، ولكن الغالبية نزحت على أمل تحسين أشكال الحياة خاصة وأن السدود تغرق مساحات فقيرة جبلية الطابع في أعالي الوديان النهرية.

ومما لا شك فيه أن حجز مياه الأنهار في البلاد ذات المناخ الجاف أمر شديد الحيوية، كما هو الحال في مصر والشرق الأوسط. والموازنة هنا هي بين الوقوع في أزمة مياه أو الوقوع في مشكلات إطماء السدود، ومشكلات التربة وفقدان الخصوبة، وارتفاع تكلفة الزراعة، وتحول فقراء الريف إلى الهجرة للمدن. والموازنة صعبة جدا وخاصة في مصر المتزايدة سكانا بشكل يأكل مدخرات التنمية باستمرار. (2-4) الموقف في مصر

لقد اكتفى المصريون القدماء بنظام ري الحياض الذي أثبت جدارة فائقة وتواؤما كاملا مع معطيات البيئة النهرية لنحو ستة آلاف سنة أو يزيد. والقول بأن المصريين القدماء بنوا سدا عند خانق سمنة وقمة في السودان الشمالي الحالي هو قول غير مؤكد. ولعلهم، على أحسن الفروض قد حسنوا أحد المجاري المائية في شبكة النهر عند الجندل الثاني من أجل تأمين الملاحة. وربما كان العمل الهندسي المائي الكبير الذي يذكر في هذا الشأن ضبط مياه بحر يوسف عند انحدارها إلى منخفض الفيوم، وما ترتب على ذلك من تجفيف أجزاء من الفيوم واستخدامها أرضا زراعية غنية منتجة للحبوب والأعناب وغيرها لمدة آلاف السنين.

لقد كان المصريون القدماء من خيرة شعوب الحضارة الذين برعوا في استخدام الأحجار الضخام. وما كان أسهل عليهم إقامة جسور وقناطر وسدود حجرية قوية على النيل وفروعه في الوادي والدلتا. لكنهم - فيما يبدو - استخدموا مهاراتهم البنائية في عمل قناطر موازنة حيثما تدعو الحاجة على الفروع الدلتاوية والقنوات، وعزفوا تماما عن عرقلة المسار الطبيعي للنهر لأسباب: على رأسها عدم إفساد هذا الطريق الملاحي العظيم الذي يربط كل أجزاء مصر من ناحية، وعدم إحداث تغيير في مائية النيل مما يفسد عماد النظام الاقتصادي المصري الموروث من ناحية ثانية. وباختصار انتفع المصريون بالنهر كما هو، وتجاوبوا معه في قحطه وفيضه. وربما كان هذا سر بقاء مصر آلاف السنين واحة خضراء لم تتدهور خصائص تربتها بما يأتيه النيل سنويا من طمي مجدد للخصوبة ينفرش بتعادل طبيعي على طول الوادي وعرض الدلتا. (2-5) الثورة الزراعية الثانية في مصر

وحينما فكر محمد علي الكبير في توسيع الزراعة الصيفية لم يفكر - هو ومستشاروه العلميون - في تغيير النظام الطبيعي لمائية النهر. بل بدأ بتعميق وحفر ترع في الدلتا، وتلا ذلك إنشاء القناطر الخيرية لرفع منسوب المياه ضمانا للري الصيفي عند تفرع الدلتا. ومنذ ذلك الحين بدأ الفكر الهندسي المصري في إجراءات تنظيم الماء بإنشاء منظومة من القناطر والترع في الصعيد، بغرض إضافة المحاصيل الصيفية التجارية الصناعية في أجزاء من الوادي جنوب القاهرة.

صفحة غير معروفة