على هامش السياحة في مصر (1) السياحة والينابيع الدافئة
في البداية أحب أن أؤكد على أن استخدام كلمة «سياح» لا تعني فقط الأجانب، بل يجب أن يفهم منها أنها تعني أهل البلد والأجانب معا في تجوالهم. والمعروف أن السياحة الأجنبية تتذبذب لظروف دولية سياسية أو اقتصادية، بينما السياحة الداخلية لا تخضع لمثل هذه المؤثرات بنفس الصورة. اهتمامنا بالسياحة الأجنبية مرده الاهتمام بتحصيل عملات أجنبية وهو ربما مما يقوي اقتصاد بلد ما. لكنه قد ينقطع سنوات ويربك الدولة المعتمدة عليه. أما السياحة الداخلية فهي أكثر استمرارية ودواما، وبذلك فهي تولد - جزئيا - استمرارية دورة رأس المال داخل الوطن الواحد، وهو شيء هام بالنسبة للاقتصاد الأساسي المحلي. وينطبق هذا المفهوم على مصر وبلاد أوروبية لها شهرتها السياحية العالمية.
في بلاد السياحة الأوروبية يعرف الناس قبل الحكومة ماذا يفعلون. كل فرد أو عائلة أو مؤسسة سياحية تعرف كيف تجتذب السياح - ليس لمرة واحدة تعتصر فيها نقود السائح - بل برفق ونعومة وقليل من السماحة والكياسة لكي يصبح السائح هو نفسه وسيلة الدعاية لمدينة أو فندق أو مطعم، وعلى البلديات المختلفة تأهيل المنطقة السياحية من حيث الطرق ووسيلة الانتقال وتنظيف وتزيين الأماكن، وتسهيل بلوغها والاستمتاع بما فيها من مناظر طبيعية حتى لو كانت صغيرة. وهناك أيضا ابتكار لمواسم معينة كعيد المدينة أو القرية بموسيقاها وأغانيها المحلية وأشكال الرقص والطرب بالملابس التقليدية وغير ذلك كثير. ماذا تستفيد البلديات من وراء ذلك؟ وضع الأماكن على خريطة السياحة بنشر الكتيبات والخرائط التفصيلية والصور الفنية تبرز جمال نهر أو شلال أو بحيرة أو قمة تل أو جبل. والغرض النهائي أن تتكسب البلدية من ضرائب المبيعات، وأن يتكسب السكان من بيع الهواء والماء وثلاجات الجبال العالية أو شواطئ الرمال النظيفة أو البحيرات المتلألئة وسط الطبيعة الخلابة؛ بإقامة الكثير من أماكن المبيت سواء فنادق أو بنسيونات أو غرف للإيجار مع الأسر والكثير من المطاعم ومشارب الشاي والقهوة ومشروبات أخرى محلية.
الشيء الهام أن الفنادق ليست بالضرورة من ذوات النجوم فكلها نظيفة مريحة للنوم، وبوفيه الإفطار بدون رقيب يحسب كم من الأطعمة والخبز وفناجين الشاي أو القهوة تناولها هذا أو ذاك. كما أن أصحاب سيارات الرحلات يتكسبون من نقل السياح بين الأماكن، أو إذا كانت هناك بحيرة ففيها زوارق تسير بالكهرباء لمنع تلوث المياه بالزيوت ومنع التلوث السمعي وإضفاء لمحات من السكينة وسط بهجة البحيرة وجمال ما يحيط بها. والسياح كل في حاله سواء كبار السن أو الشباب فلا مشاجرات ولا إزعاج بعالي الأصوات. وفي المحصلة النهائية فإن الكل يكسب ويرتفع دخلهم خلال المواسم السياحية ومعه ترتفع ميزانية البلدية مما تحصله من ضرائب مبيعات وضرائب على دخل الأفراد. جانب كبير من الضرائب للبلديات والدولة يذهب لتحسين وتنمية المنطقة وتجديد بنيتها الأساسية وخدماتها الصحية والترفيهية لرفع المستوى لكي يجذب المزيد من الحركة، وهكذا تتنامى دورة رأس المال بين المكان والناس والإدارة والسياح؛ لهذا فالدخول تختلف بين قرية وأخرى حسب الجهد المبذول في الإعلان والدعاية والخدمات الفردية والخدمات العامة . هذه هي حال السياحة في البلاد التي تجتذب ملايين السياح كالنمسا وإيطاليا وسويسرا وإسبانيا. باختصار السياح ليسوا لقمة موسم يحلفون بعده ألا رجعة لهذا المكان أو البلد، بل جذب برقة المعاملة وحسن الخدمات وسرعة الإسعاف، فالسائح إنسان معرض لحوادث المغامرة في بيئة المصيف والمشتى.
وسأختار هنا نموذج من عنصر واحد من عناصر الطبيعة لنرى كيف تنبني فوق هذا العنصر إبداعات فن الإعلان وفنون الخدمات التي تتراص فوق بعضها مما يعطي أكبر فائدة ممكنة لهذا العنصر الطبيعي الواحد - فما بالك إذا ساندته عدة عناصر أخرى من الطبيعة ومن طبيعة البشر الحلوة. هذا العنصر هو مياه الينابيع ذات الشهرة العلاجية.
فإعلانات السياحة في النمسا أو سلوفاكيا - على سبيل المثال - تروج - من بين أشياء أخرى - للمياه التي تحتوي على مواد أو غازات يقولون: إنها شافية لأمراض معينة. وعلى الفور تنشأ معها حمامات الساونا والعلاج الطبيعي اليدوي والآلي، ويكثر معها ذوي الملابس البيضاء سواء كانوا أطباء أو ممارسين للعلاج، ومعها تكثر المطاعم التي تقدم أطعمة صحية يوصى بها الأطباء، وخاصة الخضروات المزروعة بالطرق البيولوجية - بدون أسمدة كيمائية، وأخيرا يستفيد من كل ذلك إشغالات عالية للفنادق وازدهار عام لأنواع المقاهي والأشربة ورحلات المشي الحثيث إلى الصمت الذي يلف غابات الشربين والصنوبر إلا من النسيم الذي يغني بين الأغصان. هذا عنصر واحد ينبني عليه هرم مقلوب أو مظلة ساقها هذا العنصر الطبيعي الواحد يتفرع عليه كل هذه الأغصان من الوظائف والخدمات وأنشطة الناس ويرتاح إليه السياح؛ لأنهم يحسون إجازة حقيقية بعيدة عن روتين الحياة ووقعها العادي، ويشعرون بنوع من الشفاء ليس لأن هناك سحر؛ بل لأن دوام العلاج الطبيعي أسبوعا أو أسبوعين سوف تكون له نتائج مثمرة على الأبدان تتنامى إلى مشاعر النفس المرتاحة.
العالم مليء بينابيع للمياه الجوفية لكل خصائص معدنية في محتواها كالكبريت أو أملاح مختلفة، لكن الشيء الهام هو كيف تسوق ما عندك من مثل هذه المصادر الطبيعية؟
ماذا عن مصر؟!
لن أكرر ما نعرفه جميعا عن الكثير مما تغص به مصر من عناصر طبيعية وتاريخية وبشرية التي تجذب السياح إليه. لكن للأسف فإن كثيرا من مثل هذه الينابيع السياحية للأجانب والمصريين ما زالت خبيئة عن المعرفة أو أن المعلومات عنها باهتة والوصول إليها يشق على الكثيرين. وربما أكتب عن هذه الأشياء لاحقا.
وموضوعنا اليوم يدور حول جانب ليس براقا للسياحة والارتحال المحلي والمعلومات عنه ناقصة، والتمهيد إلى زيارته والإقامة فيه والاستفادة منه صحيا ونفسيا غير متاحة لغالبية الناس. ففي مصر كثير من الينابيع التي تحمل مياهها مكونات معدنية خاصة. وفي القاهرة ذاتها كان لدينا منطقتان عاملتان - حسب معرفتي، إحداهما: غرب الإمام الشافعي وتسمى عين الصيرة وكان طينها يساعد بصورة أو بأخرى على شفاء بعض الأمراض الجلدية. ومنذ نحو نصف قرن كان هناك مغطس لهذه المياه الحارة وأبنية بسيطة للمستشفين في هذه العين، يعمل فيها عدد من الممارسين التقليديين لوضع الطين على الجسد ساعة زمن ثم المغطس وبعده «التكييس» - استخدام قفاز خشن لفرك الجلد، ثم التدليك أو بلغة العصر «المساج». أين ذهبت؟ وهل البحيرة الصغيرة التي أنشأتها المحافظة الآن هي نفس العين القديمة بمواصفات أحدث. إذا كان الأمر كذلك فهل أقيمت معها أبنية حديثة تقدم فيها خدمات حديثة شبه طبية وعلاج طبيعي؟ هل كان التجميل المكاني هو الهدف الوحيد لعين الصيرة، أم لماذا لا نستعيد الوظيفة العلاجية الطبية وعين الصيرة أصبحت قريبة المنال بعد أن كانت نائية؟!
صفحة غير معروفة