أمكم أمنا وقد أرضعتنا
من هواها ونحن نأبى الفطاما
حافظ
العلاقات السياسية بين مصر والشام خلال العصور
لا نعرف قطرين اشتبكت بينهما أواصر الصداقة والتعاون مثل مصر والشام؛
1
فإن العلاقات كانت جد قوية بين أهليهما منذ أقدم عصور التاريخ. ولا عجب؛ فمتاخمة الأرض للأرض قد سهلت الانتقال بينهما ووحدت بين عادات أهليهما وطبائعهما. وقد كانت مصر منذ فجر التاريخ تفتح أبواب دورها ومؤسساتها لاستقبال الشاميين فتفيد من تجاربهم وذكائهم وحضارتهم، كما كان المصريون يفدون على الديار الشامية فيجدون فيها أهلا ويحلون سهلا ويتمتعون بما يتمتعون به في بلادهم.
يقول مسبيرو: إن السوريين قد نزحوا بكثرة إلى الديار المصرية منذ أيام الفراعنة ... وقد فتح البلاط الملكي المصري أبوابه لقبول عدد كبير منهم ليقوم بوظائف الوزارة والاستشارة. ويظهر أن الفراعنة المصريين كانوا منذ عهد الأسرة الفرعونية الأولى يطمعون في ضم البلاد الشامية إلى مملكتهم، وقد حاولوا ذلك مرات حتى نجحوا في عهد تحتمس الأول، فهو الذي وحد بين القطرين وعاش أهلوهما في عهده عيشا رغدا. ثم توالت المحن على القطرين معا حتى جاء الفرعون رعمسيس الأول فوطد ملك مصر وضم إليه من جديد أكثر بلاد الشام، ثم رعمسيس الثاني المشهور باسم سيزوستريس فوحد القطرين سياسيا واقتصاديا ونشر على البلاد الشامية لواء الأمن وخلد عهده هذا بالنقش الذي حفره على الصخر عند مصب نهر الكلب قرب بيروت. وهكذا خضعت الشام لمصر فترة غير قصيرة، ويظهر أن زعماء مصر ضيقوا الخناق على الشاميين فوقعت فتنة طويلة العهد بين البلدين، وانتهت بعقد صلح دائم كتب باللغة الحثية على صحيفة من الفضة ونقش بالهيروغليفية على حيطان هيكل الكرنك، وفيه يقول خيتا سارو ملك الحثيين السوريين: «أتعهد منذ هذا النهار أن يستمر السلام والإخاء الدائم بين بلادي وبلاد مصر وبين رعاياي ورعايا مصر، فلن تنشأ بعد اليوم عداوة بيننا ألبتة، بل يكون ملك مصر أخا لي وأكون أخا له كأن لنا قلبا واحدا.»
ومن شروط هذه المعاهدة تسليم القتلة والمجرمين وإعادة المهاجرين من الصناع والفنانين، وقد حافظ الطرفان المتعاقدان على نصوص هذه المعاهدة قرابة قرن كامل، وتوطدت أواصر الصداقة والمودة بين البلدين بتزاوج البيتين المالكين فيهما، وعاش الناس في ظل هذا العهد السعيد دهرا طويلا، ثم مرت بلاد الشام بفترة كانت فيها مستقلة أو كالمستقلة، ويظهر أن المصريين ظلوا يصطنعون بعض الشاميين ليسيطروا على بلادهم فيجعلوا منها حصنا منيعا بينها وبين بلاد الأشوريين والبابليين الذين كانوا يطمعون في السيطرة على مصر ولوبيا والحبشة والبحر الأحمر، فعاد نفوذ مصر على البلاد الشامية، وظلت البلاد فترة طويلة والمصريون يرعونها أحسن رعاية حتى نكبت بالغزو الفارسي ثم بالغزو اليوناني فانفصل البلدان، ولكن هذا الانفصال لم يدم طويلا؛ فإن البطالسة المصريين نشروا نفوذهم على أكثر البلاد الشامية، فتوحد القطران من جديد. ثم جاء العصر الروماني وبسط نفوذه على الشام ومصر معا، وكان من تاريخهما ما هو معلوم مشهور. ولكن مما ينبغي أن نذكره؛ هو أن البلاد الشامية لما نكبت بالغزو الفارسي الأخير في سنة «615م» ولقيت من الفظائع ما يعجز القلم عن تسطيره، لم تجد لها ملجأ إلا في القطر المصري الشقيق، وبخاصة عاصمته الإسكندرية. ويحدثنا بتلر عن هذه الحادثة فيقول: «لكن الملجأ الأكبر للهاربين الشاميين المشتتين من المسيحيين كان في القطر المصري، ولا سيما الإسكندرية، وكان عدد سكانها قد تزايد بما كان يرد إليها من اللاجئين الذين كانوا لا ينقطع سيلهم منذ ابتدأت غزوة الفرس في بلاد الشام.»
ونضيف إلى كلامه هذا أن عطف المصريين على الشاميين في نكبتهم هذه لم يقتصر على استقبال اللاجئين، بل كانت مصر ترسل إلى الشام القوت والذهب، وقد ذهب بعض الرهبان المصريين إلى فلسطين يجوبون أرضها ويعملون على إعادة بناء الكنائس المخربة، وقد كان توفيق أحدهم عظيما بإعادته بناء كنيسة بيت المقدس وإعادة رونقها إليها، كما تمكن من إعادة بناء كنائس أخرى مع كثير من الدور والقصور، وقد أحب أهل هذه المدينة المقدسة ذلك الراهب العظيم وأكبروا عمله، فنادوا به - وكان اسمه مودستوس - زعيما دينيا ودنيويا عليهم، وكان من جراء هذه الحادثة العظمى أن اتحدت الكنيسة القبطية والكنيسة الشامية. ولما نكب المصريون بالغزو الفارسي سنة «616م» وهدمت الإسكندرية وكثير من المدن المصرية، قابل الشاميون الإحسان بالإحسان، فأرسلوا الميرة والغذاء إلى إخوانهم المصريين، وحموا من استطاعوا حمايته من القساوسة والرهبان والشيوخ والنساء والأطفال، وحفظوا ما استطاعوا حفظه من الكتب والآثار الدينية والعلمية التي فتك بها الفاتك الفارسي الفاتح فتكا ذريعا، وأرسل قسما غير قليل منها إلى بلاده. وقد كان حزن الشاميين عظيما لما سمعوه من أخبار النكبة الكبرى التي حلت بالإسكندرية العظمى، مقر العلم والآداب ومحجة الطلاب ومنار الهدى في الشرق من أقصاه إلى أقصاه، ولا غرو؛ فإن جامعة هذه العاصمة كانت قبلة الشاميين يتعلمون فيها العلم ويبعثون إليها بنتاج قرائحهم لنقده ودرسه. وهكذا قويت العلاقات بين القطرين، فانتشرت اللغة السريانية بين علماء مصر، حتى إننا نجد في مصر جماعة من العلماء السوريين كانوا قبل الغزو الفارسي يراجعون الترجمة السريانية للإنجيل، ويترجمون كتاب التوراة السبعينية إلى السريانية من جديد، وكان ذلك في الدير المصري الكبير المعروف باسم «دير الهانطون». وقد كان للسوريين في مصر أديار خاصة بهم، ومنها الدير الذي لا يزال باقيا إلى عهدنا هذا في وادي النطرون الذي قال بتلر عنه: «ولعل الدير السرياني الذي لا يزال إلى اليوم في صحراء وادي النطرون قد نشأ في ذلك الوقت عندما جاء إلى مصر كثير من السوريين وعلمائهم هاربين من خطر حرب الفرس.»
صفحة غير معروفة