توطئة
تاريخ مصر في العصر الإسلامي
نصيب مصر في تراث الإسلام
خاتمة
توطئة
تاريخ مصر في العصر الإسلامي
نصيب مصر في تراث الإسلام
خاتمة
مصر والحضارة الإسلامية
مصر والحضارة الإسلامية
تأليف
زكي محمد حسن
توطئة
لعل وادي النيل أعظم أجزاء المعمورة اتصالا بالأحداث الجليلة في التاريخ العام، وأوفرها نصيبا في التيارات المتباينة، التي كانت تلتقي فيه فتنصهر وتمتزج. وقد كتب الأستاذ فييت المستشرق الفرنسي في مقال له عن السلطان بيبرس عبارة تؤيد هذا المعنى، كتبها السائح الفرنسي جان جاك أمبير
Jaen Jacques Ampère
في القرن التاسع عشر، وإليك ترجمتها: «إن الذي يعبر هذا البلد العظيم الشأن ليلقى في طريقه الكتاب المقدس، وهو ميروس والفلسفة والعلوم والإغريق والرومان والمسيحية، والمذاهب التي خرجت عليها، والرهبنة والإسلام والحروب الصليبية والثورة الفرنسية، بل إنه ليكاد يلقي فيها كل ما كان خطير الشأن في تاريخ هذا العالم ... وأنى لنا أن نجد مدينة كالإسكندرية شيدها الإسكندر، ودافع عنها قيصر، ثم فتحها نابليون؟»
والذي نقصده في الصفحات التالية أن نلم بنصيب مصر في الحضارة الإسلامية التي ازدهرت في قسم كبير من أنحاء العالم إلى أن طغى سيل المدنية الغربية على أغلب الدول الإسلامية.
تاريخ مصر في العصر الإسلامي
توفي محمد
صلى الله عليه وسلم
سنة 11ه /632م بعد أن وحد كلمة العرب؛ فاستطاع خلفاؤه إنشاء دولة إسلامية مترامية الأطراف، إذ لم تنقض على وفاته بضع سنين حتى سقطت على يدهم إمبراطورية إيران، وتقلص نفوذ بيزنطة في الشرق الأدنى، وحاز المسلمون الانتصارات المجيدة في الشام والعراق وإيران، ثم ما لبثوا أن فطنوا إلى ما لمصر من عظيم الشأن بفضل موقعها الجغرافي والحربي، وخصوبة أرضها التي تنتج الحنطة، وتدر الخير العميم، فسيرا إليها جيوشهم، وتم لهم فتحها سنة 21ه/641م.
وأصبحت مصر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية، يحكمها ولاة يبعثهم الخلفاء من المدينة أو دمشق أو بغداد، وأصبح الإسلام دين الأغلبية في وادي النيل منذ نهاية القرن الثالث الهجري (9م)، وظل الولاة يحكمون مصر من قبل الخلفاء إلى أن استطاع أحمد بن طولون أن ينشئ فيها سنة 254ه/868م دولة مستقلة عن الخلافة العباسية إلى حد كبير.
والمعروف أن سنة جديدة بدأت في حكم بعض الأقاليم التابعة للخلافة حين عظم نفوذ الجند من الترك في البلاط العباسي؛ إذ بدأ الخلفاء يقطعون تلك الأقاليم أولياء عهدهم، ثم بعض قواد الجند. وطبيعي أن هؤلاء القواد الترك كانوا يؤثرون البقاء في عاصمة الخلافة خشية أن تدبر الدسائس ضدهم، وكان الخليفة نفسه يرحب ببقائهم في العاصمة مخافة أن يستقلوا بما يولونه من الأقاليم، فكان هؤلاء لا يحكمون بأنفسهم بل يوفدون إلى الأقاليم نوابا عنهم، ويتلقون منهم ما يتبقى من الجزية والخراج بعد دفع نفقات الإدارة، فيدفعون إلى بيت مال الخلافة جزءا منه. وبدأ هذا النظام في مصر منذ سنة 219ه/834م، وبقي إلى أن وفد أحمد بن طولون إلى مصر نائبا عن واليها القائد التركي.
وأدرك ابن طولون أن في استطاعته الاستقلال بشئون مصر، فقد كانت حكومة العراق قد تطرق إليها الضعف، كما قام الزنج في إقليم البصرة بثورة خطيرة، وظل القتال بينهم وبين جند الخليفة نحو أربعة عشر عاما، وقامت ثورات إقليمية أخرى في بعض أنحاء الدولة الإسلامية. وكان صاحب الأمر والنهي في الخلافة هو الموفق أخو الخليفة المعتمد الذي لم يكن له من الأمر شيء، وطبيعي أن أعباء الحكم ونفقات الجيش كانت تتطلب الأموال الطائلة؛ فكان الموفق يلح في طلب المساعدة المالية من ابن طولون، ولكن حاكم مصر لم يقدم ما كان ينتظره نائب الخليفة فدب الخلاف بينهما، وكان هذا إيذانا بعصيان ابن طولون واستقلاله بمصر. ولم يعد دخل مصر يتسرب إلى بيت مال الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، أو إلى جيوب الولاة وأصحاب الإقطاع، بل بقيت أموال مصر فيها، وبدأ وادي النيل حياته لنفسه في مجموعة الأمم الإسلامية.
وأفادت مصر من حكم الأسرة الطولونية وساد فيها رخاء نسبي، وأصبحت تخشاها الدولة العباسية، ويخطب البيزنطيون ودها بإرسال الهدايا النفيسة، وإطلاق الأسرى المسلمين.
1
واستطاع ابن طولون فتح سورية، وأصبحت مصر مستقلة للمرة الأولى بعد عصر البطالسة، وعاد إليها سلطانها على الشام للمرة الأولى بعد عصر الفراعنة.
واستقلت دويلات أخرى عن الخلافة العباسية، أو أصبح سلطان الخليفة عليها سلطانا اسميا فحسب، ولكن الدولة الطولونية ومعظم تلك الدويلات الأخرى لم يكن لها أساس قومي في الأقاليم التي كانت مسرحا لنشاطها، ولم يكن قيامها صدى لحركة في الرأي العام، أو خلاف في العقيدة الدينية، أو المبادئ الاجتماعية السائدة في الدولة العباسية، ولذا فليس غريبا أن نراها لا تعمر طويلا. والحق أن مؤسسي تلك الدويلات لم يكن لهم أنصار كثيرون من بني جنسهم، فكانوا في أغلب الأحيان يجمعون جيوشهم من عناصر أجنبية مختلفة، وكان مثل هذا النظام لا يمكن المحافظة عليه إلا بوساطة زعماء ذوي نفوذ شخصي عظيم كالذين يؤسسون الدويلات المذكورة، وكانت هذه الدويلات تسير في طريق الاضمحلال تدريجيا بعد ذهاب أولئك المؤسسين.
وهكذا كان طبيعيا أن تضعف الدولة الطولونية، وأن يعود حكم مصر إلى العباسيين سنة 292ه/905م، وعاد الخلفاء العباسيون يرسلون الولاة من قبلهم لحكم وادي النيل إلى سنة 323ه/935م حين استطاع محمد بن طغج التركي الأصل أن ينظم أمور مصر التي اضطربت بعد سقوط بني طولون، وحصل هذا الوالي على لقب إخشيد، وهو لقب بعض الأمراء الإيرانيين السابقين، واستطاع أن يؤسس الدولة الإخشيدية في مصر، وأن يحصل على قسط وافر من الاستقلال، ونسج على منوال ابن طولون فاستولى على سورية، ثم ضم إلى حكمه مكة والمدينة، وأصبح مصير الحجاز متصلا بوادي النيل لعدة قرون بعد ذلك.
وقد خلف الإخشيد اثنان من أبنائه، ولكنهما لم يحكما إلا بالاسم فقد كانت مقاليد الأمور بيد العبد الحبشي كافور، الذي كان أبوهما اشتراه بنحو ثمانية جنيهات، ثم أصبح قائدا في الجيش فأستاذا للأميرين، فوصيا عليهما، فأميرا على مصر بعد وفاتهما، وكان آخر أمراء الأسرة الإخشيدية صبيا في الحادية عشرة من عمره، ورث مع العرش أخطارا سياسية واقتصادية قضت على دولته: القرامطة في الشرق، والفواطم في الغرب، وملك النوبة في الجنوب، والقحط والوباء واضطراب الأمن في مصر نفسها.
أما الفاطميون، فقد كانوا منذ استقرارهم في إفريقية يتحدون العباسيين، ولا يعترفون لهم بالخلافة أو الرئاسة الدينية والسياسية، بل يرونها من حقهم، وهم نسل فاطمة وعلي بن أبي طالب. وكانوا غير قانعين بإفريقية، فعملوا على الاستيلاء على مصر لخيراتها الواسعة، وموقعها الجغرافي، وليستطيعوا فيها أن يوسعوا نطاق دعوتهم، ويمدوا نفوذ خلافتهم الشيعية.
وقد حاول أول خلفاء الفاطميين وخليفتاه من بعده أن يفتحوا مصر، ولكن الحملات الحربية التي أرسلوها لهذا الغرض فشلت في بسط نفوذهم على وادي النيل، فلجأوا إلى نشر الدعوة السرية، ولم تكن تعوزهم السبل في هذا الميدان، واستطاعوا أن يكسبوا إلى جانبهم بعض أعيان مصر، وضباط الجيش، وكتب إليهم بعض هؤلاء يدعونهم إلى فتح مصر، ويسهلون لهم أمرها، ومهما يكن من الأمر فإن شرف فتح مصر من الصحراء الغربية لأول مرة كان لجوهر الصقلي قائد الجيش الذي سيره المعز لدين الله رابع الخلفاء الفاطميين. وكان الفاطميون قد مهدوا لهذا الفتح بأعمال استراتيجية لازمة لمثل هذا المشروع العظيم، فظلوا نحو عامين يمهدون الطرق، ويحفرون الآبار، ويشيدون المباني الصغيرة، ويخزنون المؤن والعتاد في الطريق من تونس إلى الإسكندرية. وكان الفاطميون يعرفون ما في مصر من فوضى وبؤس، ويثقون بنجاح دعوتهم فيها إلى حد كبير،
2
ويطمئنون إلى الهدوء في أملاكهم، ولا يخشون أن تهدد مؤخرة جيوشهم. وسار جوهر الصقلي من تونس سنة 358ه/969م على رأس جيش قوامه نحو مائة ألف جندي، وسلمت الإسكندرية له، ثم لقي بعض المقاومة عند الجيزة والفسطاط، ولكنه تغلب عليها في بضعة أيام، وتم له الاستيلاء على الفسطاط بعد نحو ستة أشهر من قيام حملته من القيروان، ووضع جوهر أساس مدينة جديدة قدر لها أن تكون عاصمة الإمبراطورية الفاطمية التي امتدت من سورية إلى حدود المغرب. وورث الفاطميون فيما ورثوه عن الإخشيديين حكم مكة والمدينة. والحق أن صلة وادي النيل بالمدينتين المقدستين في الحجاز ترجع إلى بداية العصر الإسلامي منذ كانت الغلال ترسل سنويا من مصر إلى الحجاز كما كانت ترسل قبل ذلك إلى روما ثم القسطنطينية.
على أن انتقال الفاطميين إلى مصر أطلق يد عمالهم في شمالي إفريقية، فلم يلبثوا أن استقلوا تماما عن الإمبراطورية، وأسسوا أسرة بني زيري في تونس، وبني حماد في الجزائر. ولكن الإمبراطورية الفاطمية كانت قد بلغت أوج عزها في عصر العزيز، حين كان يدعى له في خطبة الجمعة بالمساجد الواقعة بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي، وفي سورية والحجاز واليمن، وحين كان نفوذه يمتد إلى كل هذه الأصقاع، حتى تضاءلت الخلافة العباسية إلى جانب خلافة الفواطم، ثم بدأ الضعف يدب إلى الدولة الفاطمية على يد الخلفاء الضعفاء الذين تقلدوا أزمة الحكم بعد العزيز، وانتقل السلطان إلى يد الوزراء تدريجيا، حتى أتيح للوزير الفاطمي منذ سنة 531ه/1136م أن يتخذ لنفسه لقب «ملك»، مثل: الملك الأفضل رضوان، والملك الصالح طلائع، والملك المنصور ضرغام. وزاد الطين بلة أن الفوضى عمت بين الجند، وتفاقم التطاحن بين أجناسهم المختلفة، ومنيت البلاد بالمنافسة بين الوزراء، ونسي كل منهم أمور البلاد ونفعها في سبيل نفعه الخاص؛ فكان ذلك كله سببا في سقوط الفاطميين، ولا سيما حين قوي ساعد الصليبيين، وتطلعوا إلى فتح مصر، وعمل نور الدين صاحب الموصل على منعهم من ذلك حين طلب إليه بعض وزراء مصر مساعدته على وزراء آخرين. وصفوة القول أن الصليبيين ونور الدين سيروا الحملات العسكرية إلى وادي النيل، وتنافسوا في توطيد مركزهم فيه إلى أن استطاع شيركوه قائد جيش نور الدين أن يقتل الوزير المصري شاور، وأن يحتل مصر، ويتولى منصب الوزارة فيها سنة 564ه/1169م، ولكنه مات بعد ثلاثة أشهر، وخلفه ابن أخيه صلاح الدين، فقضى على الدولة الفاطمية، ونفذ ما أراده مولاه نور الدين فأحل اسم الخليفة العباسي المستضيء محل الخليفة الفاطمي العاضد في خطبة الجمعة، وكان الأخير على فراش الموت، وتوفي قبل أن يعرف هذا التغيير الخطير. وأسندت المناصب الدينية إلى فقهاء المذهب السني، وعادت مصر إلى هذا المذهب، ولم تكن ثمت مقاومة حتى تمت هذه العودة، «ولم ينتطح فيها عنزان» على حد قول المؤرخ أبي الفداء .
وكان طبيعيا أن تتوتر العلاقة بين صلاح الدين ومولاه نور الدين، ولكن الأول كان حكيما بعيد النظر، فاستمر على إظهار ولائه لمولاه، وكان من حسن الحظ أن توفي نور الدين سنة 569ه/1174م فخلا الجو لصلاح الدين، وأصبح حاكم مصر المستقل، بل أعظم الأمراء المسلمين على الإطلاق، وامتد حكم صلاح الدين إلى الشام ومكة والمدينة واليمن، فكتب إلى الخليفة في بغداد سنة 570ه/1175م يعدد فتوحاته، وجهاده للفرنج، وإعادته الخطبة العباسية بمصر، واستيلاءه على بلاد كثيرة في أطراف المغرب، وعلى بلاد اليمن كلها. «وطلب صلاح الدين من الخليفة تقليد مصر واليمن والمغرب والشام، وكل ما يفتحه بسيفه؛ فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالتشريف والأعلام السود، وتوقيع بسلطنة بلاد مصر واليمن وغيرها.»
3
والحق أن هذه الأقاليم الواسعة التي أرسل الخليفة إلى صلاح الدين تقليدا بتوليتها لم تكن خاضعة للخلافة العباسية تماما، ولم يكن للخليفة أي سلطان فعلي عليها، ولكنه كان يطرب لطلب صلاح الدين ويسره أن يرى لنفسه ظلا من سلطان الخلفاء السابقين، ذلك السلطان الذي فقده خلفاؤه منذ تفككت إمبراطوريتهم، وقامت على أنقاضها الدويلات الصغيرة.
على أن هذه الدولة الواسعة التي بناها صلاح الدين، وامتدت من الدجلة إلى وادي النيل لم تلبث أن قسمت بين أولاده وإخوته، واستطاع أخوه العادل سيف الدين أن يتفق مع العزيز أحد أبناء صلاح الدين، وأن تصبح له المكانة الأولى، فيضم إلى مصر غيرها من أملاك صلاح الدين. وطلب العادل من الخليفة العباسي الناصر لدين الله تقليدا بحكم مصر والشام، وسائر البلاد التي تحت حكمه، فجاءه هذا التقليد مع الخلع الثمينة له ولأولاده، وكبار رجال دولته، وتم تسليم ذلك في احتفال عظيم.
ومهما يكن من الأمر فإن أمراء الأيوبيين ظلوا يحكمون الأقاليم المختلفة من إمبراطوريته الكبيرة، ولكن كلا منهم كان يخشى الآخرين، ولا يثق بهم، فاضطروا إلى مسالمة الصليبيين حينا، وعقد بعضهم مع الصليبيين اتفاقا، قوامه أن يساعدوه على منافسيه لقاء ما ينزل لهم عنه من الامتيازات، وأفاد المسيحيون من ذلك كثيرا. وحسبهم أن الملك الكامل نزل للإمبراطور فريدريك الثاني عن بيت المقدس لقاء تعهده بمساعدة الملك الكامل ضد أعدائه.
وقد وجه الصليبيون إلى مصر ثلاث حملات في عصر خلفاء صلاح الدين، ولكنهم لم يوفقوا فيها، وكان للأيوبيين الفضل في حماية وادي النيل من هذه الهجمات. وسقطت الدولة الأيوبية حين ضعف سلاطينها، وقوي شأن عبيدهم وجندهم من المماليك الذين انتهى بهم الأمر إلى القبض على مقاليد الحكم سنة 648ه/1250م. وانقضى بسقوط الأيوبيين عهد الأسرات الوراثية الحاكمة، إذ الواقع أن الوراثة لم تكن دائما القاعدة المتبعة في نظام العرش عند المماليك، ولا سيما الشراكسة منهم، بل كانت دولتهم حكومة حربية أوليجاركية، البقاء فيها للأصلح، والعرش فيها لأقوى المماليك، وأعظمهم نفوذا، وإن حدث أن أفرادا من أسرة واحدة - كأسرة قلاوون - تعاقبوا على عرش مصر فترة من الزمن. وظل المماليك البرجية أو البحرية - وهم من الترك والمغول - يحكمون وادي النيل إلى سنة 792ه/1390م، ثم خلفهم المماليك الشراكسة الذين استمر سلطانهم إلى سنة 922ه/1517م. وعلى الرغم من أن معظم سلاطين المماليك كانوا لا يمكثون على العرش طويلا، وأن المنافسات بينهم كانت تؤدي إلى الحروب الأهلية، والمؤامرات، والثورات، والسلب والنهب، وأنهم لم يراعوا نظام الوراثة في الحكم، نقول: إنهم على الرغم من ذلك كله أفلحوا في إقامة إمبراطورية إسلامية عظيمة في الشرق الأدنى، ولكن تسرب الضعف إلى سلاطينهم في نهاية القرن التاسع الهجري (15م) بسبب بعدهم عن الشعب، واستغلالهم إياه استغلالا معيبا، يعود عليهم بالمال الوفير، ويترك الشعب في بؤس شديد، فضلا عن أن الخراب المالي حل بالبلاد عندما كشف فاسكودي جاما طريقا جديدا للوصول إلى الهند حول رأس الرجاء الصالح، فتحولت التجارة إلى هذا الطريق، وضاعت على المماليك وعلى مصر المكوس التي كانت تفرض على التجارة التي تمر في مصر وسورية، فكان ذلك ضربة قاضية على حكم المماليك، وفاتحة لانتهاء دولتهم.
وكانت الدولة العثمانية الفتية تطمع في الاستيلاء على مصر، واستطاع السلطان سليم الأول أن ينتحل المعاذير، فأخذ على المماليك أنهم كانوا يجيرون من يلتجئ إليهم من أعدائه، وأنهم كانوا يوالون عدوه الشاه إسماعيل الصفوي، وحارب سليم الشاه إسماعيل، وانتصر عليه، ثم انقلب يزحف على مصر ففتحها سنة 923ه/1517م، وأصبحت مصر ولاية عثمانية، وانتقل مركز العالم الإسلامي منها إلى القسطنطينية.
ووضع العثمانيون لحكم مصر نظاما يقضي بتوزيع الحكم بين الوالي العثماني، وديوان مكون من ضباط جيش الاحتلال على أن تبقى السلطة الإدارية المحلية في يد (البكوات) أمراء المماليك، وكان الغرض من هذا التوزيع منع حكام وادي النيل من الاستقلال عن الباب العالي، ولكنه لم يستمر أكثر من قرن واحد، إذ دب الضعف في الدولة العلية، وزادت سلطة المماليك في مصر. والحق أن الحكم العثماني في وادي النيل من بداية الفتح إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (18م) كان فترة ركود، بل كان من أظلم العصور في التاريخ المصري عامة، وليس فيه ما يستحق الذكر إلا ظهور علي بك الكبير واستقلاله بمصر سنة 1183ه/1769م.
ولم تكن مصر لتبقى بعيدة عن الثورة الفرنسية وآثارها الدولية فغزاها نابليون سنة 1798 ميلادية، وكانت الحملة الفرنسية على مصر ثم ظهور محمد علي فاتحة التاريخ المصري الحديث، وإيذانا باندماج وادي النيل في زمرة الأمم الحديثة بدون أن يفقد صلته بالعالم الإسلامي.
مصر والأحداث السياسية في العالم الإسلامي
ولعل من وسائل البحث في نصيب مصر في تطور الحضارة الإسلامية أن نعرض سريعا الأحداث السياسية العظيمة التي كان لمصر فيها شأن خاص.
ولنبدأ بالثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فإن الاستياء من سياسته كان شديدا في مصر، وأتيح لعبد الله بن سبأ - أكبر الدعاة ضده - أن يجد في مصر مرتعا خصيبا لدعوته، وساعد على نجاحها في وادي النيل أن انضم إليه نخبة العرب في مصر كمحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة، بل انضم إليها عمار بن ياسر، وهو رسول عثمان إلى مصر لتهدئة الحال، والبحث في أسباب السخط، ولكن الثائرين استمالوه إلى جانبهم. وخرج من مصر وفد من الثوار في نحو ستمائة رجل انضم في المدينة إلى سائر وفود الثوار من الأمصار، ولكن كان له الشأن الأكبر في مقتل عثمان،
4
فبدأت بذلك الحرب الأهلية في الإسلام إذ قام النزاع على الخلافة بين علي ومنافسيه طلحة والزبير، ثم بينه وبين معاوية، وكان عمرو بن العاص على رأس أنصار معاوية، ولعله كان يطمع في العودة إلى حكم مصر بعد أن عزله عثمان وولى عبد الله بن سعد. وقد أتيح لعمرو أن يخضع مصر لمعاوية، فأقره واليا عليها، بل أقطعه إياها، وأطلق يده في إدارة شئونها.
أما الدولة الطولونية فكانت أقدم مثل لاستقلال العنصر التركي بحكومة في قلب العالم الإسلامي، وقد تلتها أسرات تركية أخرى، ولكن ابن طولون هو الذي شق الطريق وأظهر إلى أي حد يمكن لحاكم قوي أن يصل إلى السلطان السياسي والحربي في إمبراطورية إسلامية اتسعت أرجاؤها حتى أصبح من العسير على الخلفاء الضعفاء أن يحتفظوا بنفوذهم فيها.
ومما نلاحظه في التاريخ الإسلامي عامة أنه وحد بين الأقاليم المختلفة في الشرق الأدنى وشمالي إفريقية، ونجح في تكون إمبراطورية كبيرة، ولكن تفككت أجزاؤها ثانية، وعادت هذه الأقاليم إلى استقلالها بفضل جهود أمراء قد يكونون غرباء عنها. ولا نكاد نرى في العالم الإسلامي أن إمارة صغيرة كانت نواة لدولة كبيرة نشأت بالاتساع، وغزو جيرانها، والاتحاد بغيرها كما كان سهل لا تيوم نواة للإمبراطورية الرومانية، وكما كانت دوقية براندنبرج الأصل في تكوين مملكة بروسيا، ثم الإمبراطورية الألمانية.
5
وأصبحت مصر في عصر الفاطميين عاصمة إمبراطورية شيعية كبيرة، على حين أن إيران لم يصبح المذهب الشيعي دين الدولة الرسمي فيها إلا بعد ذلك بنحو خمسة قرون. والحق أن دعوة القرامطة وحركتهم الثورية كانت في الشرق الأدنى إرهابية غير موفقة، ولكنها تمخضت في شمالي إفريقية عن نظام حكومي سليم على يد الفاطميين.
ولما انتقل الفاطميون إلى مصر أتيح لوادي النيل أن يكون مركزا من المراكز الثلاثة التي انقسم إليها العالم الإسلامي في ذلك الوقت، والتي كان على رأس كل منها خليفة من الأسرات الثلاثة الرئيسية في الإسلام: خليفة عباسي في بغداد، وخليفة فاطمي علوي في مصر، وخليفة أموي في الأندلس. ولم يعد لمصر استقلالها فحسب بل أصبحت ندا ومنافسا للخلافة العباسية نفسها.
ومما يستحق الذكر أن مصر لم تنقل عنوة إلى المذهب الشيعي على يد الفاطميين، فإن القائد جوهر أخذ على نفسه في العهد الذي نشره على المصريين يوم الفتح أن يترك لهم الحرية الدينية،
6
ولكن الفاطميين أقبلوا بعد ذلك على نشر دعوتهم في المساجد وبوساطة المكتبات ودور العلم وغيرها، وأصابوا في ذلك نجاحا كبيرا بدون أن يلجأوا إلى العنف، اللهم إلا في عهد الحاكم بأمر الله حين اضطر السنيون إلى دفع الجزية.
7
وشيد الفاطميون القاهرة التي ازدهرت، وأصبحت من أعظم مدن العالم في العصور الوسطى. وقد زارها الرحالة الفارسي ناصر خسرو سنة 439ه/1047م في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وأبدع في وصف عمائرها وثروتها، وقال إنه لو أفاض في وصفها لما صدقه أحد من أهل إيران، وكان للفاطميين من الكنوز الفنية ما عقد المقريزي لوصفه الصفحات الطوال في كتابه «المواعظ والاعتبار»،
8
كما كانت مكتبة القصر أعظم المكتبات في العالم كله، وضرب معظم الخلفاء الفاطميين للمسلمين أحسن الأمثلة في التسامح الديني.
أما في عصر الدولة الأيوبية، فقد استطاع صلاح الدين أن يوقع بالصليبيين الهزيمة الساحقة في واقعة حطين، ثم فتح بيت المقدس، وجعل مملكتهم في الشام تنكمش، ولو توفر له أسطول قوي لقضى عليها نهائيا. وقد غزا الصليبيون مصر في العصر الأيوبي، ونجحوا مرتين في الاستيلاء على دمياط: الأولى سنة 615ه/1218م، وقد هزمهم بعد ذلك الملك الكامل في المكان الذي أطلق عليه بعد ذلك اسم «المنصورة» إشارة إلى هذا النصر، وبرغم الفظائع الكثيرة التي أتاها الصليبيون في دمياط فإن السلطان الأيوبي الملك الكامل كان شديد التسامح معهم فأكرم أسراهم ومنحهم هدنة طويلة؛ حتى أنهم كتبوا إليه بعد إخلاء دمياط يعترفون بكرمه وحسن معاملته، ويذكرون له نقله المرضى والعجزة على نفقته، وأنه منع إهانة المسيحيين بالقول أو الإشارة. أما المرة الثانية التي استولى فيها الصليبيون على دمياط، فكانت في الحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا سنة 647ه/1249م، وتقدم لويس بجيشه إلى المنصورة، ولكنه أسر في واقعة فارسكور ومعه معظم الأشراف من رجال جيشه، ولم يفك أسرهم إلا بعد فدية عظيمة، وقد أضعف فشل هذه الحملة روح الصليبيين إلى أبعد حد.
وكان للأيوبيين وعلى رأسهم صلاح الدين الفضل في إرجاع المذهب السني إلى مكانته الأولى في الشرق الأدنى بعد أن أضعفه الفاطميون إلى أبعد حد، ومن أعظم منشآت الأيوبيين في الشام ومصر المدارس، وأول ما نشأت المدرسة بهذا الاسم كان على يد السلاجقة في إيران، وانتقلت منها إلى مصر والشام على يد الأيوبيين، وكان من أول أغراضها نشر التعاليم السنية، وتخريج الأساتذة والموظفين المخلصين للمذهب السني، والذين يعملون على محاربة التعاليم الشيعية ... وفضلا عن ذلك فإن سلاطين الأيوبيين كانوا ذوا مقدرة سياسية يحسنون المفاوضات مع المسيحيين، ويعقدون مع بعضهم الاتفاقات الحربية، والمعاهدات التجارية التي تعود على مصر بالنفع العميم.
ويلوح أن تطورا جديدا نشأ على يد الأيوبيين في العلاقة بين مصر والشام، فإن الأخيرة لم تعد إقليما يفتحه أمراء مصر الأقوياء، ويحكمونه من مصر نفسها، بل كان سلاطين الأيوبيين حكاما على مملكة إسلامية في الشرق الأدنى قوامها مصر وسورية متحدتين، وكذلك كان الحال في عصر المماليك، والميزة الأولى للأيوبيين أنهم حموا مصر والعالم الإسلامي من هجمات الصليبيين، ولكن الذين وجهوا الضربات القاضية إلى الصليبيين هم السلاطين المماليك. فالسلطان الظاهر بيبرس البندقداري بزغ نجمه في عصر سلفه السلطان قطز حين تولى قيادة الجيش المملوكي الذي أوقع بالمغول هزيمة حاسمة في معركة «عين جالوت» بفلسطين سنة 657ه/1259م.
وكان المغول قد أخذوا بغداد في العام السابق، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، ثم استولوا على سورية، وهددوا مصر، بل أرسلوا إلى السلطان المملوكي يطلبون منه الخضوع لهم. ولا ريب في أن هجوم المغول كان من أشد الأخطار التي هددت الشرق الأدنى والحضارة الإسلامية، فإنهم لو تم لهم الاستيلاء على القاهرة لخربوا عمائرها، ونهبوا كنوزها الفنية، وأتلفوا مخطوطاتها الثمينة، ونقلوا صناعها، ولما أتيح لوادي النيل أن يعرف ازدهار العلوم والفنون الذي كان مسرحا له في عصر المماليك. ومما يزيد في جلال العمل الحربي الذي قام به المماليك في صد المغول أن قدوم هؤلاء إلى الشرق الأدنى كان بتفاهم مع الصليبيين، ومع ملك أرمينية، وأن المغول حين تمت لهم السيادة على الأقاليم الداخلية في سورية كانوا على وفاق مع الصليبيين الحاكمين في إقليم الساحل، فأصبح الإسلام في الشام ومصر مهددا بأن يفقد كل سلطان سياسي، وكان المغول في الشام يضطهدون المسلمين، ويشملون المسيحيين برعايتهم.
ولم يكن بيبرس قائدا عظيما فحسب، أو حاكما شديد العناية بتنظيم الجيش، وإنشاء البحرية، وإصلاح الثغور والحصون، وإنشاء البريد، وتعبيد الطرق، وتخفيف الضرائب، ولم يعن فقط بعمارة الحرم النبوي وقبة الصخرة تدعيما لنفوذ مصر على الأماكن المقدسة، وبشن الحروب على الصليبيين الذين أنهكتهم المنافسات، والجري وراء المنافع المادية، والذين لم يبقوا بعد صلاح الدين إلا بفضل النزاع بين خلفائه من الأمراء الأيوبيين، ولم يكن فقط صاحب الفضل في القضاء على طائفة الحشيشيين التي كانت تؤذي المسلمين والمسيحيين على السواء، لم تكن لبيبرس كل هذه المزايا فحسب، بل كان سياسيا عظيما. وحسبه فخرا في هذا الميدان أنه نجح في تحقيق حلم أحمد بن طولون فجعل مصر عاصمة الخلافة السنية. أجل، إن ابن طولون فكر قبل بيبرس بأربعة قرون في هذا المشروع الخطير، فدعا الخليفة العباسي المعتمد على الله إلى القدوم إلى مصر هربا من الموفق الذي كانت له السلطة العليا في الجيش والحكومة، والذي اغتصب السلطان حتى لم يبق للخليفة منه شيء. وطبيعي أن وجود الخليفة في وادي النيل كان من شأنه أن يزيد في نفوذ ابن طولون، ولو نجح هذا المشروع لتغيير إلى حد ما مستقبل الخلافة ومستقبل مصر، ولكن الواقع أن المعتمد لم يفلح في الهرب إلى مصر؛ إذ قبض عليه عيون أخيه الموفق، وأرجعوه إلى عاصمته شبه سجين. أما بيبرس، فإنه أراد تثبيت مركزه من الوجهة الشرعية فاستدعى من الشام سنة 659ه/1261م أميرا من الأسرة العباسية كان قد فر من بغداد عندما فتحها التتار، وقتلوا المستعصم بالله سنة 656ه/1258م.
وقدم هذا الأمير إلى مصر معززا مكرما، وبايعه السلطان بيبرس خليفة على المسلمين باسم المستنصر بالله، «فلما تمت البيعة قلد الإمام المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر البلاد الإسلامية، وما ينضاف إليها، وما سيفتحه الله على يده من بلاد الكفار، ثم قام الناس فبايعوا الخليفة المستنصر على اختلاف طبقاتهم، وكتب في الوقت إلى الملوك والنواب بسائر الممالك أن يأخذوا البيعة على من قبلهم للخليفة المستنصر ... وأن يدعى له على المنابر، ثم يدعى للسلطان بعده، وأن تنقش السكة باسمهما.»
9
وهكذا تم على يد بيبرس قيام سلسلة جديدة من الخلفاء العباسيين، ولكن الحق أنهم لم يكن لهم من الخلافة أكثر من الاسم، وكان أهم أعمالهم إدارة الوقف، والاعتراف بالسلطان، ومنحه التفويض بالحكم في احتفال التولية، وقد أضاف بيبرس وخلفاؤه من السلاطين المماليك إلى ألقابهم لقبا جديدا، هو «قسم أمير المؤمنين»، ويشير هذا اللقب إلى طبيعة العلاقة بين الخليفة والسلطان. ولعل هذه لم تكن المرة الأولى التي منح فيها خليفة عباسي مستضعف مثل هذا اللقب إلى أمير من الأمراء، فقد سبق أن منحه الخليفة العباسي المستظهر للسلطان السلجوقي غياث الدين محمد (498-511ه).
10
ومهما يكن من الأمر فإن وجود الخليفة العباسي في مصر جعل لوادي النيل مركزا ممتازا، فقد كان بعض أمراء المسلمين - ومنهم السلطان العثماني بايزيد الأول وطائفة من أمراء الهند - يطلبون من الخلفاء العباسيين في مصر تقليدا لم يكن في الحقيقة ذا قيمة جدية، اللهم إلا ليجعل مركز أولئك الأمراء شرعيا،
11
وقد ظلت الخلافة في مصر إلى أن تحولت إلى العثمانيين. وآراء المؤرخين مختلفة في هذا الصدد، فقد كان الشائع أن مقاليد الخلافة انتقلت من يد الخليفة العباسي المتوكل إلى السلطان سليم العثماني بعد أن فتح مصر سنة 923ه/1517م، ولكن الظاهر أن لقب الخليفة كان يطلق في ذلك العصر على كثير من الأمراء، وأن السلطان العثماني لم يحرص على تقلده، ولا سيما أن أسلافه كانوا يستعملون هذا اللقب قبل فتح مصر . ويلوح أيضا أن السلاطين العثمانيين لم يعنوا باستعمال لقب الخلافة إلا منذ القرن الثامن عشر الميلادي؛ وذلك ليكونوا أمام الدول المسيحية رعاة العالم الإسلامي. ومهما يكن من شيء فإن امتيازات الخليفة ولقبه تحولت شيئا فشيئا إلى سلاطين آل عثمان حتى لقب سلطان تركيا بلقب إمام وخليفة في معاهدة كجوق قينارجي بين الدولة العلية والروسيا (سنة 1774م)،
12
وبقيت الخلافة بعد ذلك في آل عثمان إلى أن أعلن المجلس الوطني الكبير سنة 1922 الجمهورية في تركيا، ونصب خليفة جديدا، ولكن جرده من كل سلطان دنيوي، وفي سنة 1924 ألغيت الخلافة نفسها.
وإذا ذكرنا ابن طولون وبيبرس في معرض نقل الخلافة إلى وادي النيل يجدر بنا ألا ننسى محمد علي باشا منشئ مصر الحديثة؛ فقد فكر أثناء نزاعه مع الدولة العلية في إحياء الخلافة في مصر، وتكوين إمبراطورية عربية فيها،
13
وخير شاهد على هذا حديث لهذا العاهل الكبير مع قنصل فرنسا، وإلى القارئ ترجمة جزء منه نقلا عن كتاب «محمد علي» للأستاذ كريم ثابت (ص172-173): «إن مكة في قبضتي، والشريف يحيى يقيم فيها، وهو من سلالة نبينا، والخليفة هو نائب النبي ووارثه، فالشريف يحيى هو الخليفة قانونا، فيجيء إلى القاهرة فأنادي به خليفة، وألثم ذيل ثوبه، وأنادي بنفسي جنديه الأولى، وسيد المسلمين هو الرجل الذي يستطيع أن يقودهم، وأن يدافع عن الحج في الأراضي المقدسة ويحميه، ومن ليس له سلطة، ويريد أن يأمرهم يكون منتحلا لنفوذ ليس له فلا يقبلونه، وهناك أكثر من مائتي ألف بدوي مستعدين لأن يجيئوا ويؤيدوا الإعلان الذي أذيعه بعدم صلاح الرجل الذي هدم مؤسسات الخلافة القديمة، في حين أن الإسلام والأمم الإسلامية في حاجة إلى نهضة تجدد شبابها وتقويها، وقد كان في الإمكان تجنب هذا كله، ولكن ما دام السلطان يريد هذه النتيجة فسنراها تتحقق.»
ولنترك الآن بيبرس وانتصاراته على المغول والصليبين، وتنصيبه الخليفة العباسي في مصر، ولنعد إلى السلطانين المملوكين الآخرين اللذين كان لهما الفضل الأخير في طرد الصليبين من الشرق الأدنى: قلاوون، وخليل. أما قلاوون 678-689ه/1279-1290م، فقد عقد هدنة مع الصليبيين؛ لأن المغول كانوا يتأهبون للإغارة على مصر فهزمهم قلاوون عند حمص هزيمة فاصلة سنة 680ه/1282م، ثم تحول إلى الصليبيين فطردهم من طرابلس، ومات وهو يستعد لغزو عكا، ومع ذلك كله فقد وطد قلاوون الروابط الاقتصادية مع كثير من ملوك أوروبا وأمرائها، وأمراء اليمن وسيلان، وفي عهد الأشرف خليل سقطت عكا في يد المسلمين، وتبعها سائر أملاك الصليبين في الشام، فانقرضت دولهم فيها.
ولا يسعنا أن ننسى أن مصر في عصر المماليك كانت واسطة عقد العالم الإسلامي كله، وحسبنا أن سلطانا كالناصر محمد بن قلاوون طبقت شهرته العالم المتمدين في ذلك الوقت، فتقرب إليه إمبراطور بيزنطة، واتصل به إمبراطور الهند، وطلب إليه أن يساعده على المغول، وبعث إليه البابا وبعض الأمراء المسيحيين في أوروبا وفودا تخطب وده، وتطلب إليه أن يكرم المسيحيين في دولته، وتعد بأن تكرم المسلمين في أوروبا.
والمعروف أن المؤرخ المغربي ابن خلدون وفد إلى مصر سنة 784ه/1382م ووصفه مدينة القاهرة يشهد بعظمة مصر في ذلك العصر، فقد كتب عن العاصمة المصرية: «فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك تلوج القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب من علمائه.»
14
وروى ابن خلدون في هذه المناسبة ما قاله عن القاهرة عالم أوفده السلطان المغربي أبو عنان إلى مصر سنة 756ه/1358م، قال هذا السفير: «إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل.»
وطبيعي أن وادي النيل فقد كل شأن خطير سياسي أو اجتماعي في العالم الإسلامي منذ الفتح العثماني إلى الحملة الفرنسية، وأتيح للفرنسيين ولمحمد علي من بعدهم أن يضعوا أساس مصر الحديثة، وأن يدخلوا إليها معالم المدنية الغربية، فأصبحت لمصر القيادة في العالم الإسلامي، ونهض بها محمد علي في وقت دب الضعف فيه إلى الدولة العلية حتى استطاع محمد علي أن يقول في حديث له مع القنصل الفرنسي ميمو: «إن محمد علي وسائر كبار رجال الدولة والأمة لا يريدون سوى إصلاح إدارة السلطنة وأحوالها، يريدون تجديد شبابها لتستطيع مقاومة أعدائها الطبيعيين، فهم الذين يريدون تفككها لا نحن. وهناك سبيل واحد أمام السلطنة يمكنها أن تسلكه لتسترد القوة التي فقدتها، ولتعززها بقوة جديدة لم تعرفها قبلا، وهو التفاهم مع محمد علي؛ فيصبح لها جيش عظيم، وأسطول يمكن مضاعفته، ويصبح لها رأس محمد علي، وذراع إبراهيم. لقد حدثتموني عن احتمال تدخل أوروبا بالسلاح، إني لا أخشى هذا التدخل، ولن يجرؤ عليه أحد، وإذ خطر للمسيحيين أن يحتلوا بلادي بزعم أنهم يدافعون عنها فإن عملهم هذا يشعل نار ثورة عامة عليهم، بل نار حرب دينية تفتك بهم فتكا ذريعا، ويكون الذين سهلوا لهم القدوم إلينا ضحاياها الأولى.»
15
ولسنا نزعم أن ثورة محمد علي وعمله على الاستقلال بمصر كانا من أسباب تعقد المسألة الشرقية، وازدياد الضعف في الدولة العلية، فالحق أنهما نتيجة، أو على أقل تقدير ظاهرة لهذا الضعف الذي دب إلى الدولة منذ بدأ انهزامها أمام النمسا والروسيا بسبب ضعف السلطة المركزية، وفساد الجيش والإدارة، وتدخل الأجانب في شئون الدولة الداخلية والخارجية.
وخطت مصر في عصر إسماعيل وخلفائه خطوات واسعة في سبيل الإفادة من المدنية الغربية، ولكنها لم تفقد يوما من الأيام صلتها بحضارة الإسلام، أو زعامتها بين الأمم الإسلامية.
نصيب مصر في تراث الإسلام
ولنعرج الآن على بعض مظاهر الحضارة الإسلامية لنرى الدور الذي كان لمصر في تطورها، ولكن علينا أن نذكر دائما أن وادي النيل كان من أكثر الأقاليم التي فتحها العرب إقبالا على اعتناق الإسلام، وأن الدين الجديد أيقظ مصر، وكان حافزا لها على أن تنهض بعد أن ظلت نحو عشرة قرون خاضعة لحكم الروم. ولا يفوتنا أن مصر إحدى الأمم القليلة التي تخلت نهائيا عن ماضيها الوطني، وعن لغتها القومية، ورمت بنفسها في أحضان الإسلام والمدنية الإسلامية، وفي الحق أننا نستطيع أن نتتبع تطور الثقافة في مصر منذ فجر الإسلام إلى العصر الحاضر، فنجد سلسلة متصلة الحلقات من الآثار الأدبية والعلمية، ولا غرو فقد أصبحت منذ دخول العرب إليها مركزا علميا في المملكة الإسلامية كما هي مركز سياسي.
1
فكان للمصريين شأن واضح في علم القراءات، وكانوا أساتذة القراء في الأندلس والمغرب، وفي علم الحديث زار أصحاب الكتب الستة مصر فيما زاروه من الأقاليم الإسلامية، واعتمدوا على رواية كثير من المصريين. وكان أحدهم - وهو النسائي صاحب «السنن» - عظيم الاتصال بمصر، فقد عاش فيها حقبة طويلة من عمره، ومن أقدم علماء الحديث عبد الله بن وهب المصري صاحب كتاب «الجامع في الحديث»، وقد عثر على نسخة بردية منه ترجع إلى القرن الثالث الهجري.
وممن نبغوا في علوم الدين من المدرسة المصرية في فجر الإسلام عبد الله بن لهيعة، والليث بن سعد. وقد انتشر مذهب الإمام مالك في مصر منذ البداية، والحق أن لوادي النيل الفضل الأكبر في انتشار هذا المذهب في إفريقية والمغرب والأندلس. وكذلك وفد الإمام الشافعي على مصر، وقويت مدرسته فيها، وأخذ عنه المصريون طريقته في المناظرات الفقهية، والكتابة العلمية، ولكنه تأثر بمصر، وكون مذهبه الجديد فيها.
2
وصفوة القول أن مصر مهد المذهب الشافعي، وأن من المصريين أعظم رجاله.
ونلاحظ في هذه المناسبة أن تغييرا كبيرا تم في وادي النيل منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، فقد اندمج المسلمون اندماجا كليا في الأمة الإسلامية، وأصبحت الأغلبية العظمى في مصر تدين بالإسلام، كما أصبحت العربية لغة المصريين من مسيحيين ومسلمين، وتزوج العرب من بنات المصريين الذين اعتنقوا الإسلام، فهوى الحاجز الذي كان يفصل في البداية بين العرب وغير العرب.
وقد كان لمصر شأن يذكر في حياة المذهب الشيعي، وتطور تعاليمه، فلم تكن مصر حاضرة الإمبراطورية الفاطمية الشيعية فحسب، بل إن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ادعى الألوهية نتيجة للعقائد الفاطمية في أشد درجاتها غلوا، وأعلن أنصاره عبادته وتوحيده وتنزيهه، وكان على رأس هؤلاء الأنصار داع اسمه درزي، وإليه ينسب مذهب الدروز الذين يعيشون في الشام، ويعبدون الحاكم بأمر الله إلى اليوم، ويعتقدون بأنه لم يمت، وإنما اختفى وسيظهر يوما من الأيام.
3
وكذلك كان لمصر سبق مذكور في ميدان التصوف، فالمعروف أن ذا النون المصري كان من أكبر النساك في بداية التصوف، وقد عاش ذو النون في مصر وتوفي في الجيزة سنة 245ه/860م، ويعدونه من أقطاب الصوفية، بل يقال إنه أول شيخ أعلن اعتناقه العقيدة الصوفية، ومهما يكن من الأمر فإن لذي النون فضلا كبيرا في وضع كثير من التعاليم الصوفية كما نعرفها الآن، وإليه ينسب القول بأن الوجد وليس العلم هو السبيل الوحيد لمعرفة الله المعرفة الحقيقية.
وفضلا عن ذلك فإن أكبر الشعراء الصوفية هو ابن الفارض المصري (577-632ه/1181-1235م)، وقصيدته التائية الكبرى التي مطلعها:
نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي
فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت
فيها زهاء سبعمائة وخمسين بيتا، وليست من العيون الفريدة في الأدب العربي فحسب، ولكنها ذات شأن عظيم في دراسة التصوف الإسلامي.
وممن كان لهم شأن عظيم من شعراء مصر محمد بن سعيد البوصيري المتوفى نحو 696ه/1297م، فقد نظم في مدح النبي - عليه السلام - عدة قصائد، أشهرها قصيدته المشهورة بالبردة، والتي مطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وقد أتيح لهذه القصيدة أن تصيب من الذيوع والانتشار أكثر من أي قصيدة عربية أخرى، والمعروف أن الشاعر نظمها توسلا إلى الله أن يشفيه من فالج نصفي أصيب به، فرأى النبي في المنام يلقي عليه بردته فانتبه من النوم سليما معافى، وبعد أن كانت القصيدة تسمى «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» أصبحت تعرف باسم «البردة»، وقد كان من شهرتها أن كتب لها زهاء تسعين شرحا بالعربية والفارسية والتركية والبربرية كما ترجمت إلى شتى اللغات واللهجات، ولا زالت أبياتها ترتل في الجنازات، وتكتب في التعاويذ حتى اليوم.
وقد بلغ الصوفية أوج عزهم في مصر في أيام صلاح الدين الأيوبي وخلفائه كما يشهد بذلك العدد الوافر من البيوت التي شيدت لهم، والتي تعرف باسم الخوانك (جمع خانكاه)، وعلى رأسها الخانكاه الصلاحية التي فتحها صلاح الدين «للفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة»، ورتب الأوقاف للإنفاق عليهم.
4
وقدر للجامع الأزهر الذي شيده الفاطميون أن يصبح أكبر جامعة إسلامية للعلوم الدينية العالية يفد إليها الطلاب من جميع أصقاع العالم الإسلامي، ويحملون إلي بلدانهم ما يفيدونه من الحركات العلمية في وادي النيل، والحق أن الأزهر كان له شأن عظيم جدا في المحافظة على التراث الثقافي الإسلامي، وفي إعلاء مكانة مصر بين الأمم الإسلامية.
ومن الطقوس الدينية التي كان لمصر صلة وثيقة بها إرسال المحمل إلى الحجاز، فقد قيل أن شجرة الدر هي التي ابتدعت هذه السنة، وجاء في بعض المصادر القديمة أنها ترجع إلى عصر الحجاج عامل بني أمية على العراق. ومهما يكن من الأمر فإن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس كان أول من أقام الحفلات والطقوس في هذه المناسبة، وتبعه في ذلك أمراء مصر حتى العصر الحديث. وكان الأمراء في مصر والشام والعراق واليمن يقصدون بإرسال المحمل إظهار استقلالهم وعظمتهم، وما يشملون به الأماكن المقدسة من رعاية. والمعروف أن الوهابيين حين فتحوا مكة منعوا إرسال المحمل، ولكن هزيمتهم على يد محمد علي أعادت إلى المحمل المصري مكانته. ولما أصبح ابن السعود ملكا على الحجاز لم يسمح بدخول جند مصريين يحرسون المحمل أو موسيقى تتقدم موكبه، وكان هذا الموقف سببا في منع المحمل من السفر إلى أن نجحت مصر والحجاز في السنين الأخيرة في عقد اتفاق بهذا الشأن.
وأصبحت مصر في العصر الحديث المركز الثقافي في العالم الإسلامي، ونبغ من رجالها الشيخ محمد عبده الذي يعد من أعظم الفقهاء المسلمين نفوذا في العصور الأخيرة، وإليه يرجع الفضل في إزالة العوائق التي كانت تشل حركة الإسلام، وتمنعه من التجديد على أساس تحكيم العقل، فأطلق الهمم لتعمل على التوفيق بين الإسلام والحياة الجديدة في العالم الإسلامي المتأثر بالثقافة الغربية. وكان للشيخ محمد عبده الفضل في إدخال العلوم الحديثة في الأزهر، وفي تفسير الإسلام تفسيرا جديدا، لا يقطع صلته بماضيه، ولا يقعده عن مسايرة النهضات الحديثة. والحق أن الأستاذ الإمام وتلاميذه من بعده عملوا كثيرا في هذه السبيل، وانتشر نفوذهم في العالم الإسلامي كله، فبعث فيه نهضة فكرية مباركة. ومن خير ما كتب بإيجاز في شرح مدرسة الشيخ محمد عبده ما كتبه المستشرق الإنجليزي الأستاذ جب في كتابه «وجهة الإسلام»، وإلى القارئ نبذة منه منقولة عن الترجمة العربية للأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة (ص48-49):
غير أن الأفكار التي تأسست عليها كلية عليكرة (الجمع بين الإسلام والرقي العلمي الحديث) أخذت تدب أيضا في نفوس أهل السنة في مصر، ولكنها هنا نزعت نزعة أعظم خطورة، وأوسع شمولا للجماعة الإسلامية في جملتها، لم تكن هذه النزعة أقل من محاولة تأويل العقائد الإسلامية من جديد، وصوغها بما يتلاءم مع الفكر الحديث، ولكن الذين قاموا بهذا لم يكونوا من العلمانيين المثقفين ثقافة أوروبية، بل قام به جماعة من الفقهاء الإخصائيين. وإذا أردنا أن نفهم الخطورة التامة لهذه الحركة ولوسائلها يجب أن نلقي نظرة عجلى على إحدى مميزات منهج علم الفقه الإسلامي، لقد رأينا أن الإسلام الأول خرج من جزيرة العرب مرنا بعض المرونة، وأنه قضى قرنين أو زهاءها عاملا على تكييف نفسه مع البيئات التي حل فيها، وعلى وضع تفاصيل علومه الفقهية، وقد بلغ هذا الأمر كماله بفضل جهود العلماء والفقهاء الذين أقر لهم الجميع بالقدرة على الاجتهاد، أو استنباط أحكام حاسمة في مسائل العقائد والأحكام، ومتى صدرت هذه الأحكام اعتبرت غير قابلة للتغيير، ثم أخذ باب الاجتهاد يضيق تدريجيا إلى أن انتهى إلى مسائل قليلة الخطر، حتى إذا ما بت في أمرها أغلق باب الاجتهاد نهائيا، ومن ذلك الحين لم يكن لعالم عند أهل السنة مهما ارتفع شأنه أن يدعي لنفسه لقب مجتهد (أما عند الشيعة، فإن النابهين من علماء الدين لا يزالون يحملون هذا اللقب حتى اليوم).
وظل أهل السنة ما يقرب من عشرة قرون يسيرون في حياتهم الدينية «بالتقليد»، أعني بمقتضى أحكام السلف المتقدمين، كانت هذه العقيدة هي موضوع الجدل بين الأحرار من فقهاء مصر الذين ذهبوا يؤكدون أن تغير ظروف الحياة، وأن النزعات الفكرية الجديدة يجعلان اطراح مجرد التقليد، وفتح باب الاجتهاد من جديد أمرا محتما، ويؤكدون أن تنافر الإسلام مع الفكر الحديث إنما يعزى إلى ما يحيط به من المذاهب الجدلية البالية للعصور المتوسطة، وأن الإسلام - على عكس ذلك - إذا فهم حق الفهم في صورته الأصلية فإنه يكون على تمام الوفاق مع نتائج البحث العلمي الممحصة، بل إنه ليكون أكثر توافقا مع تلك النتائج من أي نظام ديني آخر. وقد وجدوا زعيما عظيما في شخص الشيخ محمد عبده (المتوفى سنة 1905م) الذي يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث، والذي جذبت إليه شخصيته ومواهبه طائفة كبيرة من المعجبين به، وأكسبت الحركة أتباعا كثيرين لا في مصر فحسب، ولكن في البلاد الإسلامية الأخرى.
ولنعرج الآن على نصيب مصر من النواحي الأدبية والعلمية من الثقافة الإسلامية. والحق أن مصر كانت لها منذ البداية مكانة خاصة عند المسلمين، إذ إنها ذكرت في عدة مواضع في القرآن، وفي الأحاديث، وهي فضلا عن ذلك موطن مارية القبطية زوج النبي - عليه السلام. وقد كانت بعض الأحاديث التي تنسب إلى النبي عن «فضائل مصر» نواة لفصول في هذا الصدد كتبها المؤرخون والمؤلفون المصريون في العصور الوسطى، بل قد ألف فيه بعضهم كتبا مستقلة، ومنها كتاب «فضائل مصر» الذي ألفه عمر بن محمد الكندي لكافور الإخشيدي، والذي ينسب خطأ في بعض الأحيان إلى أبيه محمد الكندي صاحب كتاب «ولاة مصر وقضاتها».
على أننا نذهب إلى أن أكبر نصيب لمصر في الثقافة الأدبية الإسلامية إنما هو ما كتبه المصريون في التاريخ. والحق أنه ليست هناك أمة إسلامية أخرى تستطيع أن تفخر بمثل ما خلفه المصريون من دراسات في تاريخ بلادهم، وأنظمتها السياسية. والمؤرخون المصريون في العصور الوسطى لم يكتبوا في التاريخ السياسي، وفي التراجم فحسب، بل فاقوا سائر الكتاب المسلمين في دراسات الخطط والآثار، التي يعتبر المقريزي بطلها الممتاز.
ولعل شهرة المقريزي ترجع قبل كل شيء إلى كتابه «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار»، فهو على رأس المراجع الأساسية لمن يشتغلون بتاريخ مصر وآثارها، ونظمها في العصر الإسلامي.
ومن المؤلفين المصريين الذين كتبوا في الخطط ابن عبد الحكم، والكندي، وابن زولاق، والقضاعي، والأوحدي، ثم اقتفى أثرهم في العصر الحديث علي مبارك باشا في كتابه «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة»، والأستاذ محمد كرد علي بك في كتابه: «خطط الشام»، وهو وثيق الصلة بمصر لما كان بين البلدين من اتحاد سياسي في العصر الإسلامي.
وقد أنجبت مصر عددا وافرا من المؤرخين، وحسبنا أن نذكر ابن الحكم، وابن الداية، والكندي، وابن زولاق، وابن أبي أصيبعة، وابن الراهب القبطي، والعماد الأصفهاني، وأبا شامة، وابن واصل، والقفطي، وابن خلكان، وابن شداد، والذهبي، والمقريزي، والعيني، وابن تغري بردي، وأبا الفدا، والسخاوي، وابن إياس. ولا ننسى في هذه المناسبة أن مصر كان لها أثر ظاهر في حياة ابن خلدون، فقد ولي القضاء بها، وكتب فيها الجزء الأكبر من كتابه في التاريخ، ثم توفي بعد أن أقام بها زهاء عشرين عاما.
وقد نبغ من علماء اللغة العربية في مصر طاهر بن بابشاذ الذي تولى ديوان الإنشاء في العصر الفاطمي، وكان إمام عصره في النحو، وكذلك ابن بري، وابن الحاجب، وابن مالك الطائي. وكان ابن منظور صاحب «لسان العرب» من رجال ديوان الإنشاء بمصر في عصر المماليك، وكان للمصريين طريقة أدبية في البلاغة، ومذهب يختلف عن المذهب الفلسفي أو الكلامي الذي اتخذ في سائر الأقطار العربية،
5
والمعروف أن في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول حركة ترمي إلى العناية بدرس الأدب المصري الإسلامي، وقد اتجه بعض الأساتذة إلى البحث في أثر البيئة المصرية البحتة في العلوم والفنون الإسلامية التي ازدهرت في مصر.
وأكبر الظن أن وادي النيل كان مهد القصص الشعبية الشرقية، فإن هذه القصص اليت يحفظها القصاص، ويقبل العامة على سماعها أو قراءتها قد تم صوغها في مصر فاتخذت فيها شكلها الحالي، إن لم تكن قد نشأت فيها منذ البداية. والحق أن قصص عنتر، والظاهر بيبرس، وأبي زيد، وسيف بن ذي يزن يبدو عليها الطابع المصري، بالرغم من أن بعضها تدور حوادثه في بيئة غير مصرية.
ولا ريب في أن مصر كان لها نصيب وافر في «قصص ألف ليلة وليلة» التي نعرفها الآن، ولسنا ننكر أن هذه القصص مختلفة العناصر، وأن بعضها يرجع إلى العراق في القرن الرابع الهجري (10م)، ولكن البيئة التي تشير إليها بعض القصص المذكورة هي البيئة المصرية، فضلا عن أن مؤرخا مصريا اسمه القرطي كتب تاريخ مصر في عصر العاضد آخر خلفاء الفاطميين، أشار إلى وجود قصص ألف ليلة وليلة، وفضلا عن ذلك فإن في هذه القصص ما يشير إلى مصر في عصر المماليك.
6
وكانت مصر والشام مهد الموسوعات والمجاميع الإسلامية، فإن معظم الذين ألفوا الكتب الجامعة للموضوعات المختلفة كانوا من المصريين، أو كانوا من الشاميين في عصر اتحاد البلدين. فالنويري صاحب «نهاية الأرب في فنون الأدب» كان من رجال السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، وابن فضل الله العمري صاحب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» تولى القضاء بمصر في عصر المماليك، وأبو العباس أحمد القلقشندي صاحب «صبح الأعشى» كان أيضا من الموظفين المصريين في ذلك العصر، وجلال الدين السيوطي تولى الإفتاء بمصر وتوفي في بداية القرن العاشر الهجري (16م) بعد أن ألف الكتب والرسائل العديدة في التفسير والحديث والتاريخ والفقه وعلوم اللغة، وغيرها. والحق أن كتابة الموسوعات من أخص مميزات الحركة الأدبية بمصر في العصر المملوكي. ولا ننسى في هذه المناسبة أن بطرس البستاني اللبناني الأصل قام في العصر الحديث بكتابة دائرة المعارف المنسوبة إليه، وكانت رعاية هذا المشروع للخديوي إسماعيل الذي يرجع إليه الفضل في تشجيع البستاني من الناحيتين المادية والأدبية.
ومن العلماء المصريين الذين نبغوا في ميدان العلوم أبو كامل شجاع ابن أسلم، وعلي بن يونس، وابن الهيثم، وعلي بن النفيس. أما شجاع بن أسلم، فقد ذاع صيته في علم الجبر في بداية القرن الرابع الهجري (10م)، وكتب فيه فزاد على ما خلفه الخوارزمي في كتابه «الجبر والمقابلة». وابن يونس اشتهر بالرياضيات والفلك في العصر الفاطمي، واخترع الرقاص أو بندول الساعة الدقاقة، وكان لأرصاده الفلكية وبحوثه العلمية أثر كبير في علم الفلك. أما ابن الهيثم، فكان أكبر علماء المسلمين في الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في العصور الوسطى، ولولاه لما أتيح لعلم البصريات أن يصل إلى ما هو عليه الآن، وقد ترجم كتابه في هذا العلم إلى اللاتينية سنة 1572م، وأخذ عنه علماء أوروبا جميع معلوماتهم، ولا سيما في موضوعات انكسار الضوء، وتشريح العين، وكيفية تكوين الصور على شبكية العين.
7
وممن ازدهروا بمصر في ميدان الطب علي بن النفيس الذي كان رئيس الأطباء في مارستان قلاوون بالقاهرة، والمتوفى سنة 687ه/1288م، وقد كان فوق اشتغاله بالطب من البارزين في العلوم الدينية واللغوية والأدبية في عصره. وكتب ابن النفيس شرحا لتشريح ابن سينا وصلت إلينا نسخة مخطوطة منه، وقد ظهر من دراستها أن هذا الطبيب المصري اهتدى إلى حقيقة الدورة الدموية الصغرى «دورة الدم من البطين الأيمن في القلب إلى الرئتين ثم إلى البطين الأيسر» قبل أن يكشفها الأوربيان ميشيل سرفت
Michel Serfet
سنة 1556م، وريالدو كولومبو
Realdo Colombo
سنة 1559م، وسبقهما إلى ذلك بنحو ثلاثة قرون.
8
وكتب البيطرة نادرة في اللغة العربية، ولكن من أعظمها كتاب قدمه إلى الناصر محمد بن قلاوون طبيب كان له الإشراف على إسطبله وخيوله.
ومن المسلم به عند المشتغلين بالطب وتاريخه أن أمراض العين كانت تعالج بمصر والشام في القرنين السادس والسابع بعد الهجرة (12 و13م) بأسلوب علمي يفوق كل ما كان معروفا حينئذ في سائر بلاد العالم.
ولا ريب في أن أعظم علماء الحيوان عند المسلمين هو محمد بن عيسى الدميري المصري المتوفى بالقاهرة سنة 808ه/1405م، وأحسن مؤلفاته كتاب «حياة الحيوان الكبرى»، وقد ترجم إلى الإنجليزية والتركية.
ومن خير من أنجبهم عصر المماليك أحمد بن ماجد الذي وضع الكتب والرسائل في علم البحار وتسيير السفن، وكان لمؤلفاته وخبرته فضل كبير على الملاحة البرتغالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بعد الميلاد. وقد ثبت لبعض علماء أوروبا أن فاسكو دي جاما استعان بابن ماجد في تسيير أسطوله من مالندي على ساحل إفريقيا الشرقية إلى قاليقوت في الهند.
9
والحق أن مصر ساهمت بنصيب وافر في إنشاء الأساطيل المصرية الأولى. وفي السنين التي تلت فتح مصر استطاع العرب النزول في الجزائر الواقعة شرقي البحر الأبيض المتوسط مثل: قبرص، ورودس، وكريت، بل لقد استطاعوا سنة 34ه/655م أن يكسبوا أول معركة حربية كبيرة ضد الروم. وهي موقعة ذات الصواري التي مني فيها البيزنطيون بخسارة كبيرة. ويمكننا القول بأن عبد الله بن سعد الذي خلف عمرو بن العاص في حكم مصر كان أمير البحر الثاني في الإسلام، أما أمير البحر الأول فكان معاوية بن أبي سفيان أثناء ولايته على الشام، وقبل أن تصير له الخلافة. فكان المسلمون يقومون بغزواتهم البحرية ضد البيزنطيين من الشام بقيادة معاوية، ومن مصر بقيادة عبد الله بن سعد. وبعد أن كان البحر الأبيض المتوسط في عهد جستنيان بحيرة بيزنطية أصبح بفضل مصر والشام بحرا إسلاميا، ولا ننسى أن سكان مصر - ولا سيما القبط - كان لهم الفضل في بناء السفن، وتشييد دور الصناعات في وادي النيل، وفي تونس والشام.
أما في ميدان الفنون الإسلامية فقد كانت مصر مهد طرازين من أبدع الطرز الإسلامية، هما: الطراز الفاطمي، والطراز المملوكي.
ووجد الفاتحون العرب في وادي النيل فنانين مهرة ولا سيما في النسج والحفر في الخشب وصناعة الزجاج، وكان للمعماريين المصريين شهرة واسعة في فجر الإسلام، فقد وجدت أوراق بردية على مقربة من سوهاج ثبت من نصوصها أن فريقا من مهرة البنائين المصريين استخدموا في المسجد الجامع بدمشق، وفي المسجد الأقصى ببيت المقدس.
والمعروف أن المحاريب المجوفة التي تعين اتجاه القبلة في المساجد لم تكن فيها منذ البداية، بل كانت ظاهرة حادثة في عمارتها. وقد تبين علماء الآثار الإسلامية أن هذه الظاهرة المعمارية منقولة عن الكنائس المسيحية، وأن أول محراب مجوف بني في الإسلام شيده بناءون من القبط كانوا يعملون في الحرم النبوي بالمدينة المنورة، ولا ريب في أن العمارة والفنون الزخرفية الإسلامية في مصر احتفظت بطابع مصري يميزها إلى حد ما عن الطرز الفنية في سائر العالم الإسلامي. فضلا عن أن كثيرا من الموضوعات الزخرفية التي استخدمها الفنانون المسلمون في مصر مشتقة من الموضوعات الزخرفية القبطية، والإغريقية الرومانية في وادي النيل.
وكانت المنسوجات المصرية الإسلامية، والتحف المصنوعة من البلور الصخري ذات شهرة عالمية في العصور الوسطى، كما أن أقدم ما نعرفه من جلود الكتب الفنية الإسلامية تنسب إلى مصر في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة (8-9م)، ولا ريب في أن سائر الأقطار الإسلامية تأثرت بزخارفها وأساليبها الصناعية، بل إن تأثيرها امتد إلى جنوبي أوروبا، ولا سيما إيطاليا.
وكان الإنتاج المعماري والفني في مصر الإسلامية عظيما في مقداره ونوعه، بل إننا لا نجد له نظيرا في سائر الأقطار الإسلامية اللهم إلا في إيران، وحسبنا أن نقرأ وصف التحف الفنية التي جمعها الخلفاء الفاطميون، أو أن نرى التحف المحفوظة في المتاحف والمجموعات الفنية الخاصة، أو نقلب النظر في العمائر الإسلامية التي تزدحم بها مدينة القاهرة، والتي جعلت أعظم متحف للطرز المعمارية الإسلامية في ممر العصور.
ولا غرو فقد كانت خيرات مصر واسعة إلى أبعد حد، وكان بين يدي حكام مصر ثروتها الطبيعية، فضلا عن الأرباح الوافرة التي كانوا يجنونها من مرور تجارة الشرق في مصر والشام. وأصبحت مصر المركز الرئيسي لتبادل التجارة بين آسيا وأفريقية وأوروبا منذ أن ضعفت بغداد، ثم سقطت في يد المغول؛ فصار ثغر الإسكندرية «مخزن العالم» كما كانوا يسمونه إلى أن كشف طريق رأس الرجاء الصالح، فكان ذلك سببا في خراب مصر المالي، وإيذانا بسقوط دولة المماليك.
خاتمة
ولسنا نريد أن نعرض في هذه الرسالة الصغيرة لنصيب مصر الحديثة في بعث الحضارة الإسلامية، وتقويم دعائمها، والعمل على نهضة العالم الإسلامي، فقد عقدت لمصر الزعامة الثقافية في الأمم الإسلامية منذ انتشلها محمد علي من عصر الحكم التركي المظلم، فنظم التعليم، وأرسل البعثات إلى أوروبا، وأصلح إدارة البلاد وأحوالها الاقتصادية، ونسج خلفاؤه على منواله فانتشرت الطباعة، ونمت الصحافة، وقامت الجمعيات العلمية، وأنشئت المكتبات والمتاحف والجامعة. والحق أن مصر تنهض في العصر الحديث بمهمة التوفيق بين الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها منذ العصور الوسطى والحضارة الغربية التي تأثرت بها منذ الحملة الفرنسية على وادي النيل.
وصفوة القول أن مصر - على عكس إيران وتركيا والأندلس - تخلت في الإسلام عن لغتها، وماضيها القومي، وكرست كل جهودها للحضارة الإسلامية فساهمت فيها بنصيب وافر، وأنجبت كثيرين من أعلام المسلمين في العلوم والآداب والفنون والسياسة.
صفحة غير معروفة