أوقعت زيارة روجرز الناصريين في اضطراب شديد. ومثل كابوس ليلي ثقيل تراءى لهم مستقبل المفاوضات المصرية الإسرائيلية المباشرة بوساطة أمريكية، ومن ثم تنبئوا بشكل واضح بإقصاء الاتحاد السوفييتي كواحد من تبعات هذه الخطوة. لقد توقعوا أيضا أن يستغل الأمريكيون قدرتهم في الضغط على إسرائيل وإرغامها على تقديم بعض التنازلات حتى يستطيع السادات «ابتلاع» ما سوف يقترحونه عليه. أما قضية إعادة الأراضي المصرية المحتلة فسوف تتحرك من سكونها بمساعدة أمريكية، وسوف تعود العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة النفوذ الأمريكي في كل أوجه الحياة في البلاد. وسوف يصعد ممثلو الطبقات والدوائر الرجعية الذين حاربهم ناصر وأنصاره بعناد، وسوف يتم تغيير القيادات الحالية ويتغير نهج البلاد حتما، وتصاب العلاقات بين مصر والدول العربية بأبلغ الضرر، ويتم خيانة الأنظمة التقدمية، ويصبح الرجعيون من أمثال فيصل هم أصدقاء مصر.
في محاولاتهم قطع زيارة روجرز، كان «المتآمرون»، كما باتوا يعرفون بهذا الاسم، مستعدين حتى إلى القيام بعمليات عسكرية دون إذن ضد إسرائيل؛ من أجل أن يضعوا الرئيس أمام الأمر الواقع؛ ففي ظروف الحرب لن يجرؤ روجرز على المجيء لمصر، أما اللجوء للعمليات العسكرية فيمكن لهم تبريره بأنه عمل وطني، والمنتصرون على حق دائما. عموما فقد سعى الناصريون في خططهم لاستخدام الاتحاد السوفييتي بقدر الإمكان، ولو أدى الأمر إلى المواجهة العسكرية المباشرة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولهذا راحوا يلحون على «التدخل السوفييتي» على نحو أكبر؛ أي بزيادة عدد المستشارين العسكريين السوفييت، والعاملين العسكريين في مصر بشكل عام.
كيف انتهت محاولة هذه الجماعة من القيادات الحكومية والشخصيات العامة التأثير على السادات والسيطرة عليه أو حتى العمل معه وخاصة عند اتخاذه لقراراته أمر معروف جيدا للجميع؛ لقد زج السادات بهم في السجون لمدد طويلة. في مايو 1971م تم اعتقال علي صبري نائب الرئيس (نصيره الأول كما كان السادات يعتبره)، شعراوي جمعة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي (كان جمعة «يستعد» ليقوم بدور رئيس الوزراء ثم الرئيس بعد ذلك)، محمد فوزي وزير الحربية (الوطني المخلص، الإنسان الجدير بالاحترام، الصديق الرائع للاتحاد السوفييتي)، سامي شرف («رئيس» كل أجهزة المخابرات ومحاربة التجسس)، لبيب شقير رئيس مجلس الأمة (اليساري الماركسي)، محمد فائق وزير الإعلام أحد أكبر المثقفين، عبد المحسن أبو النور الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، رئيس المنظمة السياسية الوحيدة في البلاد، وغيرهم من القيادات. كان هؤلاء الرجال يتولون مناصب حساسة، وكانوا في الواقع هم من بيدهم مقادير الدولة، وفي لحظة واحدة إذا بهم خلف القضبان. هل كانت لديهم النية آنذاك في إزاحة السادات؟ لا أظن. ومما يؤكد ذلك أعمالهم التي سبقت اعتقالهم.
لقد قرر السادات أن يبدأ الضربة الأولى، وكانت ضربة استفزازية.
في البداية أقال علي صبري نائب الرئيس من منصبه، وكان قد أبلغ السفير السوفييتي بهذه الخطوة قبل اتخاذها بثلاثة أيام. كانت حساباته في ذلك اختبار رد فعل الاتحاد السوفييتي؛ هل سيبدي اعتراضه أم يكون له موقف آخر؟ هل يقف الاتحاد السوفييتي خلف علي صبري و«أصدقائه» في الداخل كما حاول الأمريكيون بإصرار أن يوحوا له بذلك؟ فإذا ما عبر الاتحاد السوفييتي عن استيائه فهذا هو البرهان. فضلا عن ذلك فقد بدا أن يدي السادات أصبحت طليقة في اتصالاته المقبلة مع الأمريكيين، الذين سيجدون الذريعة إذا ما تصرف الاتحاد السوفييتي بشكل «سيئ». إبان لقائه بي شرح السادات لي نيته في عزل علي صبري؛ لأن العمل معه أصبح صعبا، ولأنه يعارض الرئيس. وأضاف السادات أنه يحيطني علما بقراره مسبقا لأنه يتوقع أن تنتشر الشائعات حتما لتقول إن قراره يعد بمثابة لفتة غير ودية تجاه الاتحاد السوفييتي.
وبعدما اقتنع السادات أنه لن يكون هناك أي اعتراض من الجانب السوفييتي (لم يكن من الممكن أن يحدث ذلك بطبيعة الحال نظرا لأنها قضية مصرية داخلية، وقد اكتفيت بعدها بتقديم النصيحة بضرورة الحفاظ على وحدة القيادة في البلاد). اتخذ السادات خطوته. استدعي شعراوي جمعة وقال له إنه غير راض عنه، واقترح عليه إما أن يقدم استقالته بنفسه وهو الأكثر كرامة، وإما سيضطر لعزله من منصبه. انتهى الحديث بأن قرر شعراوي جمعة أن يقدم استقالته، وبعد أن غادر جمعة مقر الرئيس توجه ليخبر رفاقه بما حدث، وكانت النتيجة أن اتخذوا قرارا بتقديم استقالاتهم جميعا. قرار غبي وسخيف لو أن «المتآمرين» كانوا يرغبون حقا في إزاحة السادات! فما الذي منعهم وقد كان الجيش والشرطة والاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الأمة ومنظمات الشباب والصحافة والإذاعة وهلم جرا رهن إشارتهم. أما كانت لديهم حسابات ساذجة في أن تجبر الاستقالة الجماعية لقيادات الدولة السادات على أن يغير قراره بعزل شعراوي جمعة، أو على إجباره على تغيير النهج الذي اتخذه بأن يحكم منفردا ويوافق على أن «يحكموا معا» (؟). لقد تصرف السادات وفقا لمنطقه هو؛ منطق التآمر الذي مارسه زمنا طويلا إبان عمله السري. لقد أدرك أن تنازله الآن سوف يكون وبالا عليه في المستقبل.
لقد كشفت الاستقالة الجماعية له عن جوهر القضية؛ كانت الاستقالة تعني أن الناصريين كانوا يرون أن طريقهم مختلف عن طريق السادات. وما دام الأمر كذلك، فهذا يعني أن من المستحيل مستقبلا الاعتماد على خضوعهم لطاعته وولائهم لرئيسهم ومن ثم لقراراته. وحتى وهم بعيدون عن السلطة فسوف «يعكرون المياه» لأنهم مشهورون، ولأنهم أذكياء، ولأنهم يتمتعون بالنفوذ والثقة وخاصة من جانب الاتحاد السوفييتي، ولأنهم معروفون في البلاد الأخرى وخاصة في الدول العربية. إذن فهم أعداؤه، إن لم يكن من ناحية الشكل، فمن الناحية النفسية؛ وهو ما يعني أنه إذا كان عليه أن يحكم منفردا، فعليه بالضرورة أن يقوم بعزلهم عن المجتمع وعن الدولة، وأن يفعل ذلك بكل ثبات.
اعتقل السادات كل من أشرنا إليهم من شخصيات، واضطر بالطبع أن يضم إليهم العديد من الأشخاص جرت لهم محاكمة غير علنية صاخبة، وجهت إليهم فيها تهمة الخيانة (!)، وصدر الحكم فيها بإعدامهم شنقا، ثم تم تعديل الحكم بقرار شخصي من الرئيس إلى السجن المؤبد بالنسبة «للمتهمين» الأساسيين. ولا يمكن أن نعزو هذا «الكرم» من الرئيس إلى خصاله الشخصية النفسية بطبيعة الحال. كان من الواضح أن السادات وضع في حسبانه ألا يقطع «شعرة معاوية» مع الاتحاد السوفييتي؛ إذ كان يعلم أن ما جرى من تنكيل لم يكن ليمر مرور الكرام؛ فالاستمرار في المناورة مع الاتحاد السوفييتي ما زال أمرا واردا في مخططات السادات.
وأخيرا، وبداية من منتصف شهر مايو عام 1971م، دانت السلطة بأكملها لمحمد أنور السادات، ليس فقط اسميا وإنما فعليا أيضا. الآن لم يعد أحد يحيطه من الشخصيات ذات النفوذ، الشخصيات صاحبة الرأي، الشخصيات التي ارتبطت بالعمل مع الرئيس الراحل عبد الناصر. لم يبق سوى إصدار الأوامر والنظر إلى كيف ستنفذ التعليمات.
وفي أبريل عام 1973م استخدم السادات «الاحتياطي» الأخير من السلطة؛ فقد أعلن نفسه «الحاكم الأعلى» للبلاد، وبهذا أصبح من ناحية الشكل أيضا فوق السلطة التشريعية، كما استولي لنفسه على منصب رئيس الوزراء، أما منصب رئيس الاتحاد الاشتراكي العربي فكان يشغله بالفعل من قبل. وفي سياق ذلك، قام بحل اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي. وهكذا جمع في يديه كل شيء بما في ذلك لقب القائد الأعلى لاتحاد الجمهوريات العربية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية.
صفحة غير معروفة