وقد شرح لنا السادات الموقف بقوله: إن هذه الدبابات ما هي إلا «مجموعة تخريبية»، وإن مصيرها «الهلاك». ثم أردف قائلا لسبب ما أن هذه مناورات «سياسية» (؟) من جانب الإسرائيليين.
وفي مساء السادس عشر من أكتوبر وصل إلى القاهرة ألكسي كوسيجين للتشاور مع السادات. وبينما كنا في انتظار هبوط الطائرة في المطار سألت حافظ إسماعيل مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي عن الدبابات الإسرائيلية التي تسللت إلى غرب القناة ، فأجاب بأنها «حكاية سخيفة» يتعامل معها العسكريون على النحو المطلوب، وأنه لا داعي للقلق. وقد اتضح فيما بعد أن «العسكريين» لم يتخذوا في الواقع أي إجراءات للتخلص من الثغرة بأوامر من «أعلى». وهكذا، أصبح الموقف الآن على الجبهتين لغير صالح العرب. فالمصريون لم يعد باستطاعتهم - حتى وإن أرادوا - تقديم أي دعم للجبهة السورية، حيث تم إيقاف هجوم الإسرائيليين على مقربة من دمشق بصعوبة بالغة.
وعلى الرغم من أن زيارة كوسيجين كانت تعتبر «سرية»، فإن المصريين أعطوا للوفد تصريحا لدخول مطار القاهرة الدولي، الذي تحول إلى قاعدة لل
B.B.C ، كتب عليها «بمناسبة زيارة رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي»، كما وضعوا عند مقدمة السيارة المخصصة له العلمين المصري والسوفييتي، ورافقتها الدراجات النارية.
راح ألكسي كوسيجين ينظر باهتمام شديد من خلال نافذة السيارة إلى القاهرة في الليل، والتي من المفترض أنها تعيش، إذا جاز التعبير، «حالة حرب». وقد لاحظ الإهمال في التعتيم على مصادر الإضاءة، كما شاهد عددا كبيرا من الشباب يتسكع، وغيابا كاملا، في رأيي، لما يمكن أن نسميه «حالة حرب». كانت الحرب بالنسبة لكثير من المصريين البسطاء تبدو وكأنها تجري بعيدا في مكان ما بالقرب من القناة، يديرها عسكريون محترفون، أما لماذا تدور وما هي أهدافها، فهو ما لا يعرف عنه المصري البسيط الأمي إلا قليلا. لم تكن أسماء أبطال الحرب معروفة (وهؤلاء لم يكن عددهم بالقليل)، ولم تكن هناك إشارة واحدة في الصحافة أو الإذاعة والتليفزيون حول موقف الاتحاد السوفييتي (أبلغني السادات أن كل ذلك كان متعمدا إخفاؤه «لأسباب أمنية»). يا لها من رحب غريبة!
اجتمع السادات وكوسيجين لتبادل الرأي على انفراد، وأحيانا في حضور السفير السوفييتي ومستشار الرئيس للأمن القومي. وكان السادات يعبر «ظاهريا» عن مشاعر الود، لكنه نفى بعناد حدوث أية تغييرات سلبية في الموقف العسكري وطلب «ضمانات» ما في حالة استمرار العمليات الحربية الإسرائيلية. ومرة أخرى يعود ليصف الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون ووصولهم إلى الضفة الغربية للقناة بأنها أمر تافه لا قيمة له، وأنها مجرد «مناورة سياسية».
وبعد نقاش طويل مستفيض استهدف استيضاح الوضع السياسي المصري بدقة، أعلن السادات أنه قد وافق على وقف إطلاق النار، إذا ما قامت إسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في الثاني والعشرين من نوفمبر 1967م الخاص بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة. وإلى أن يتم الانسحاب الإسرائيلي طلب السادات وضع قوات سوفييتية وأمريكية «عازلة»، من قبيل الضمان، بين القوات الإسرائيلية والمصرية، وأن يتم عقد مؤتمر دولي لتسوية مشكلة الشرق الأوسط (ومشكلة الفلسطينيين ومصير الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة وغيرها من المشكلات).
بعد مغادرة كوسيجين القاهرة تلقينا أخبارا أخرى مزعجة: لقد عبرت ما بين 30 إلى 40 دبابة إسرائيلية إلى الضفة الغربية لقناة السويس، ثم تزايدت أعدادها إلى أن وصلت إلى 150 دبابة احتلوا مطارا عسكريا ميدانيا، وسرعان ما أقاموا رأس جسر وخاصة نحو الجنوب، ودمروا نقطة مهمة من شبكة الدفاع الجوي تغطي الجيش المرابط في الضفة الشرقية للقناة دون مقاومة تذكر. لم يتحرك الجيشان الثاني والثالث على الضفة الشرقية واللذان كان يتمركز في مؤخرتهما على الضفة الغربية الجيش الأول أيضا.
في سياق مباحثاتي مع السادات والتي جرت يومي 19 و20 من أكتوبر سألته بإلحاح عن الثغرة، إذا كان الإسرائيليون قد بدءوا بالفعل في بناء جسر ترابي عبر القناة سرعان ما عبرته وحدات إسرائيلية جديدة إلى مصر، إلى أفريقيا، وهو ما أكدته الصور الجوية التي التقطت. ما الذي ينوي الرئيس اتخاذه من إجراءات عسكرية وسياسية في هذا الصدد؟
تملص السادات من السؤال في ضجر، وقال: إن الثغرة التي فتحها الإسرائيليون لا تساوي شيئا من وجهة النظر العسكرية، وإنما هي ذات مغزى سياسي وحسب (مرة أخرى!) وعلى أصدقائنا السوفييت «ألا يشعروا بالقلق من ذلك، فالقيادة العسكرية المصرية تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة»!
صفحة غير معروفة