لقد ظهرت هناك بوادر فتور في العلاقات المصرية الأمريكية، وكان السادات في حاجة إلى مزيد من الوقت ليجد حجة ما يثبت بها للولايات المتحدة الأمريكية وفاءه للعهد الذي قطعه على نفسه. وقد وجد السادات هذه الحجة في مجموعة من الخبراء العسكريين والفنيين السوفييت الذين كانوا يقومون على تدريب العسكريين المصريين وعلى إعداد وحدات الدفاع الجوي التي كانت مهمتها حماية الأجواء المصرية إبان الإعداد العاجل للأطقم المصرية، وهؤلاء جاءوا إلى مصر بناء على طلب من ناصر والقيادة المصرية، التي كان السادات واحدا منها. وهنا ظهرت سلسلة من الممارسات العدائية استهدفت إهالة التراب على النشاط المتفاني للعسكريين السوفييت الذين قاموا بنزاهة وشرف على إنجاز مهامهم العسكرية الأممية في ظروف استثنائية بالغة الشدة.
أورد هنا بعض الأمثلة فحسب. في سبتمبر عام 1971م بدأت المخابرات الأمريكية التي كانت تعمل هي وعملاؤها على نحو سافر للغاية في العمل المكثف ضد القوات المسلحة المصرية، وانتهى الأمر باكتشاف القضية التي عرفت باسم «قضية راندوبولو»، وهو مواطن مصري كان يعمل مقاولا في تشييد بعض المنشآت العسكرية تم تجنيده من قبل الأمريكيين. وفي كتابه «الطريق إلى رمضان »، كتب هيكل يقول إن التي قامت بتجنيده فتاة اسمها «مس سوين»، كانت تعمل ضمن أعضاء بعثة رعاية المصالح الأمريكية التي ترفع العلم الإسباني. وقد ألقت المخابرات المصرية القبض على راندوبولو وسوين. وفي هذا الوقت قام الجانب المصري بإبلاغنا أن راندوبولو يعمل بالتجسس لصالح إسرائيل ، وحاول المصريون اتهام العسكريين السوفييت بافتقاد اليقظة والحذر، ومن ثم، مساعدة الإسرائيليين! من ناحيتنا نفينا وبشكل منطقي هذه الادعاءات المضحكة، وأعلنا أن مكافحة التجسس تقع مسئولية الجانب المصري وحده. فيما بعد قرأت باهتمام بالغ ما ذكره هيكل في كتابه: أن يوجين ثرون رئيس المخابرات المركزية في مصر كتب خطابا صريحا، بعد أن تكشفت أبعاد القضية، إلى رئيس المخابرات المصرية ورئيس جهاز مكافحة التجسس آنذاك الفريق أحمد إسماعيل، يقول فيه: «إن أيا من المعلومات التي حصلنا عليها من هذه الفتاة لم تصل قط إلى يد الإسرائيليين، وإنها كانت لصالح الولايات المتحدة فقط، وبالمناسبة فربما تكون في صالح مصر أيضا؛ إذ يمكن بفضلها للحكومة الأمريكية أن ترد على الحكومة الإسرائيلية التي تبالغ في تقديرها لحجم الأسلحة التي يقدمها الاتحاد السوفييتي لمصر، والتي تتعلل بها لدى الولايات المتحدة الأمريكية لطلب صفقات جديدة من الأسلحة. وأود أن تعلموا أن مصر لم تكن هي الهدف من وراء عملية التجسس هذه؛ فكما تعرفون فإن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي منغمسون في مواجهة شديدة، ونحن نتجسس عليهم لا عليكم.»
قرر السادات أن يطلق سراح الجاسوسة الأمريكية، وفي هذا السياق، أشار هيكل إلى أن ذلك كان بهدف مواصلة دعم هذه الفتاة للاتصال، والتي أصبحت تمثل له (أي السادات) أمرا غاية في الأهمية؛ السادات - المخابرات المصرية - المخابرات المركزية - المجلس الأمريكي وكيسينجر.
في مطلع عام 1972م، تعرضت مجموعة كبيرة من الضباط السوفييت، كانوا في طريق عودتهم إلى الوطن، لتفتيش مهين في مطار القاهرة. وكان الهدف من وراء ذلك، كما صرح موظفو الجمارك المصريون، إثبات صحة الشائعات السائدة التي تقول إن الروس يقومون بتهريب كميات كبيرة من الذهب. وبالطبع لم يسفر التفتيش عن وجود أي ذهب. كان علينا أن نتخذ إجراءات حاسمة في هذا الشأن بما فيها مخاطبة الرئيس نفسه. وفي مساء نفس اليوم اتصل بي السادات وكنت وقتها في ضيافة رئيس الوزراء عزيز صدقي في بيته للتحدث في بعض الأمور، قال لي السادات عبر الهاتف: إنه يشعر بالخجل أن يقرر شخص ما في مصر «مكافأة» العسكريين السوفييت على هذا النحو غير اللائق على ما بذلوه من جهد مخلص، وطلب اعتبار هذا الحادث منتهيا وكأنه لم يكن؛ أي إنه بهذا قد قدم اعتذاره بالفعل.
وفي حديث صحفي أدلى به السادات لمجلة «نيوزويك» الأمريكية اشتكى من أن عليه أن يدفع مبالغ مالية هائلة بالعملة الصعبة للاتحاد السوفييتي تمثل مرتبات العسكريين السوفييت العاملين في الجيش المصري. ولما كانت هذه المزاعم بعيدة تماما عن الواقع، فقد قلت للسادات مداعبا في أحد لقاءاتي به مستندا إلى هذا الحديث: إن العسكريين السوفييت مندهشون لعدم حصولهم على العملة الصعبة حتى الآن. تجهم وجهه ثم قال في غضب مفتعل: هذه من بنات أفكار الصحفيين.
ومع ذلك، فقد صرح النائب الجديد لوزير الخارجية إسماعيل فهمي للصحافة أن الاتحاد السوفييتي حليف لا يركن إليه، وأنه لن يذهب مع مصر «حتى النهاية» (أي نهاية؟) وقد وصل الاستياء بوزير الخارجية المصري والسفير السابق لدى موسكو مراد غالب إلى حد أنه سعي لعزل إسماعيل فهمي من منصبه نائبا لوزير الخارجية (الذي حدث أن مراد غالب هو الذي تم عزله من منصبه ليصبح إسماعيل فهمي وزيرا للخارجية).
وأخيرا حزم السادات أمره.
في يوليو عام 1972م، تسلم السادات رسالة من نيكسون. وعندما التقيت به بعد عدة أيام بناء على طلبه، طلب مني فجأة، وهو في حالة شديدة من الاضطراب، أن أبلغ موسكو، دون إبداء أسباب، أنه ليس بحاجة إلى خدمات العسكريين السوفييت في مصر. هكذا دون كلمة شكر واحدة على ما قدموه من جهد متفان وإنكار للذات، ودون كلمة عن أسباب هذا القرار المفاجئ، الذي لا يمكن تفسيره بصورة رسمية والذي ستكون له، دون أدنى شك، عواقب سياسية هائلة. لم تكن نبرة الرئيس تشوبها أدنى رغبة في التعاون، وقد شمل «قراره» بملاحظات لاذعة وحادة تمس العسكريين السوفييت، وهي ملاحظات لم أستطع، بطبيعة الحال، أن أرد عليها.
عندما أدركت أن الرئيس، على الرغم من كل محاولاتي، لا يريد أن يتطرق إلى لب الموضوع، كان علي أن أذكره أن العسكريين السوفييت جاءوا إلى مصر نتيجة الإلحاح والطلبات المتكررة من الرئيس عبد الناصر، ومنه هو شخصيا فيما بعد وبأمر من الحكومة السوفييتية وأنهم، وبغض النظر عن المصاعب التي واجهوها، قد أدوا واجبهم الأممي بشرف وهم يضعون نصب أعينهم هدفا واحدا هو أن تكون مصر دولة قوية، وأنهم لا يستحقون هذه الكلمات التي قالها عنهم الرئيس، وإنني لن أفهم هذه الكلمات. ولما وجدت لديه الرغبة في الاستمرار مرة أخرى في إهانة العسكريين السوفييت، قلت له إنه إذا لم يكن لديه شيء آخر يقوله، فسوف أبلغ موسكو بما أعلنه. ودعته بإيماءة من رأسي وأنا أغادر المكان.
بعد خروجي، قام السادات، كما حكى لي هيكل فيما بعد، باستدعائه هو ورئيس الوزراء عزيز صدقي ووزير الحربية محمد صادق وأبلغهم ب «قراره».
صفحة غير معروفة