في منتصف الحفل، تغيب السفير برهة لاستدعائه لأمر ما، وعندما عاد همس في أذني قائلا: «لقد أخبرني سائقي أنه كان يستمع للراديو، وأنهم أذاعوا نبأ استقالة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية شعراوي جمعة!»
أعدت سؤال السفير: «استقالة؟! وما الأسباب؟ أجاب: غير معروف. لم يعلنوا أكثر من ذلك. إما أنه هو الذي تقدم باستقالته، وإما أنهم عرضوا عليه الرحيل، وربما يكون السائق أخطأ السمع.»
بالطبع كان الخبر يحمل في طياته أمورا فائقة الأهمية.
اضطررت لمغادرة الحفل، كان علي أن أعود إلى البيت وأن أعرج بعد ذلك للأهمية على دار الأوبرا، حيث يعرض باليه «دون كيخوت» من إعداد المخرجين والأساتذة السوفييت. كانوا ينتظرونني هناك، وإذا لم أذهب فربما يتم تأويل الأمر وخاصة في ضوء أحداث هذه الليلة. قررنا الذهاب إلى المسرح مع بداية الحفل لمجرد الظهور إذا جاز التعبير. وبطبيعة الحال، لم نع شيئا من العرض.
تعلمت من خبرتي الطويلة في العمل الدبلوماسي أن الحدس كثيرا ما يؤدي دورا مهما. وهو أمر ليس بمستغرب؛ حيث إن الحدس يعكس على نحو غير واع الخبرة المتراكمة. شعرت أن أمرا جللا سيقع حتما في هذه الليلة. غادرت الحفل مستترا بالظلام.
كان الوقت متأخرا، لكن رفاقي كانوا بانتظاري في السفارة. كانوا قد استمعوا من الإذاعة إلى خبر استقالة شعراوي جمعة. والآن، تبث الإذاعة المارشات والأغاني الوطنية، وهي إشارة على وقوع حدث ما مهم.
وما هي إلا برهة بعد إذاعة خبر قبول الرئيس لاستقالة شعراوي جمعة، حتي توالت أنباء الاستقالات؛ فقد قدم استقالته وزير الحربية محمد فوزي، ورئيس مجلس الأمة لبيب شقير، ووزير الإعلام محمد فائق، وأمناء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي عبد المحسن أبو النور وضياء الدين داود وغيرهم. وقبل السادات استقالة كل من تقدم ذكره، وقام على الفور بتعيين رئيس الأركان اللواء محمد صادق وزيرا للحربية، كما عين محافظ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرا للداخلية.
بدأ الأمر في الوضوح، يبدو أن الاستقالة الجماعية كانت بالفعل محاولة لممارسة الضغط على السادات حتى يعود للسير في خط القيادات المصرية. ويبدو أيضا أن أحدا من هذه القيادات لم يفكر في عواقب الأمور؛ فبعد أن عاد «المتآمرون»، كما أطلق عليهم فيما بعد، إلى منازلهم بعد أن تقدموا باستقالتهم، خلدوا إلى النوم على أسرتهم. لم تكن هذه بالطبع، محاولة انقلاب؛ فالانقلابات لا تتم على هذا النحو مطلقا.
لكن هذا السلوك أدهش السادات. كان كما لو أنه هو الذي قام بنفسه باستثارة كل من تستهويه طريقته في القيادة لتقديم استقالته. وها هو يجد على وجه السرعة بديلا لقيادتين ولقوتين حاكمتين؛ الجيش والشرطة. وهو ما يعني أن هذين المرشحين كانا معدين له سلفا. عندئذ تذكرت الكلمات التي قالها السادات لي منذ أقل من يومين فقط مضيا : «يمكنك أن تضع ثقتك - مثلي تماما - في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء دائرتي المقربة.» لماذا قال لي ذلك؟ ثم عدت أفكر: ألم يقل لي السادات هذا وهو يضمر في نفسه فكرة محددة؟
هزت الأحداث في مصر العالم العربي بأسره، وشدت إليها انتباه العالم كله. وراحت صحافة الدول الغربية، لسبب ما، تؤكد بشدة على أن ضربة قاصمة أصابت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي. هذا ما كانت تتمناه الدول الغربية، وكل من كان استقلال مصر استقلالا حقيقيا على غير هواه.
صفحة غير معروفة