وفي سياق الحديث الذي أعقب تسليم أوراق الاعتماد عبر الرئيس السادات عن رغبته في استمرار التعاون الوثيق بيننا وعقد لقاءات منتظمة معه.
بعد الانتهاء من تسليم أوراق الاعتماد توجهت بنفس ملابسي الرسمية إلى قبر ناصر في المسجد الجديد الجميل الواقع على مقربة من بيته الذي عاش فيه، وهناك كان بانتظاري طاقم دبلوماسيي السفارة بأكمله وقد أحضروا إكليلا من الزهور عليه شريط كتب عليه باللغتين العربية والروسية: «إلى جمال عبد الناصر من سفارة الاتحاد السوفييتي لدى الجمهورية العربية المتحدة.» وقد أثار قيام السفير السوفييتي بوضع إكليل من الزهور على قبر ناصر على إثر قيامه بتسليم أوراق اعتماده للرئيس الجديد اهتماما كبيرا من جانب الصحافة والتليفزيون، فضلا عن تجمع العديد من سكان الحي في المكان. كنت أود بذلك أن أرسخ تقليدا وأن أؤكد على تواصل العصور.
وعلى الرغم من أن المصريين يعيشون على مساحة لا تتجاوز من 3-4٪ فقط من إجمالي مساحة البلاد، على شريط ضيق يمتد بمحاذاة النيل، فإن دلتا هذا النهر تشغل عدة مئات من الكيلومترات، بالإضافة إلى أراض شاسعة تقع على تخوم البحر المتوسط مباشرة، فإن البلد ذاتها، شعبها ، ماضيها، حاضرها، تترك في النفس، بطبيعة الحال، أثرا هائلا لا ينمحي. لقد بادت إنجازات الحضارتين اليونانية والرومانية على نحو أو آخر، بينما بقيت الحضارة المصرية القديمة ظاهرة في آثارها الخالدة. وعن هذه المعجزات التاريخية خطت مئات الكتب، ولا يزال بالإمكان كتابة مجلدات أخرى. ولهذا، وعلى الرغم من رغبتي في مشاركة الآخرين إعجابي بهذه الحضارة، فإنني لن أفعل ذلك، فهو أمر يدخل في اختصاص أناس آخرين. أشير هنا إلى انطباع لشدة ما أبهرني مفاده أن المصريين المعاصرين لا يشعرون أنهم ورثة هذا الماضي التليد. إن الكثير منهم يفتخر وحسب أنه يعيش في هذا البلد الذي تصادف أن ظهرت فيه في زمن ما أشياء عجيبة من شأنها أن تجذب إليها الناس من شتى أنحاء العالم.
وفي نفس الوقت، كان هناك أمر آخر أثار إعجابي أيضا وهو الإحساس الواضح بشعور المصريين، حتى البسطاء منهم، بأنهم سادة هذا البلد، وكان هذا الشعور يتجلى في الكثير من الأمور، سواء الكبيرة أو الصغيرة، وخاصة في السلوك اليومي وفي الأحاديث العادية والحميمة وفي كرم الضيافة التلقائي البعيد عن التكلف، وكذلك في التفاؤل وعزة النفس، وأخيرا في القدرة على تحمل المصائب بروح ساخرة. ليس من قبيل المصادفة أن شاعت هذه الطرفة الساخرة التي تقول إن نابليون هزم في مصر بفضل النكات التي استهدفه بها المصريون. وفي هذا السياق، راح المصريون يلاحقون السادات بالنكات منذ أن تولى منصب الرئيس. واحدة منها ذات مغزي خفي تقول: إن الرئيس السادات استقل سيارة الرئيس الراحل ناصر، وعند مفترق الطرق سأله السائق: إلى أين نتجه؟ يمينا أم يسارا؟
فسأله السادات باهتمام: وفي أي اتجاه كان يسير ناصر؟
أجاب السائق: «يسارا.»
عندئذ قال السادات: «حسنا، أعط إشارة الدوران إلى اليسار، ثم .. انطلق يمينا.»
كان مما أثار دهشتي أيضا هذه المشاعر الودية الجارفة التي يكنها المصريون للروس ، وخاصة تجاه الخبراء الذين كانوا يشاركونهم العمل في بناء محطة القوى الكهرومائية العملاقة في أسوان، وفي بناء مجمع الحديد والصلب في حلوان بالقرب من القاهرة، وفي المصانع الأخرى والمشروعات الزراعية، وفي الجيش بطبيعة الحال. كان سد أسوان يبدو من الطائرة على هيئة مشط نصف دائري مغروس وسط صحراء صفراء حارة مترامية الأطراف تتدفق المياه منه بلون الصلب الرمادي، ومن خلفه ترامت بحيرة عملاقة هي «بحيرة ناصر»، ومن الناحية الأخرى امتد نهر النيل شريطا قاتم اللون.
في فبراير عام 1971م، تم الاحتفال رسميا بانتهاء العمل في السد ومحطة الكهرباء التي راحت تعطي آنذاك نصف الطاقة الكهربائية التي تنتجها أفريقيا كلها. عزفت الأوركسترا ورفرفت الأعلام وعلقت الملصقات وعقدت اللقاءات الجماهيرية. انتهى بناء المشروع العملاق الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الاتحادية إفشاله؛ وذلك بفضل المساعدة النزيهة التي قدمها الاتحاد السوفييتي، الذي كان عليه القيام بحل المشكلات العلمية والفنية. لقد أقدم ناصر في شجاعة على التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفييتي، وها هي أسوان وقد أصبحت تمثل قمة هذا التعاون. لقد باتت أسوان رمزا للحكمة الاقتصادية وإصرار ناصر، فضلا عن أنها جسدت رؤيته السياسية.
لقد تسنى للسادات افتتاح السد ومحطة القوى الكهربائية. وعلى اللوحات التذكارية التي أقيمت على السد ومحطة الكهرباء تخليدا لهذا الحدث البارز اختفت أية إشارة للاتحاد السوفييتي ودوره في تشييدها؛ فقد كتب: «بمشيئة الله ومساعدة أصدقائنا قمنا ببناء السد العالي الذي افتتحه الرئيس محمد أنور السادات.» من هؤلاء الأصدقاء؟ لعل أحفاد المصريين يبحثون بأنفسهم. لكننا رأينا مقدار الفرحة الصادقة التي حيا بها البناة المصريون أصدقاءهم الروس أثناء الاحتفال. كان المصريون يعلمون جيدا ما الذي قدمه الاتحاد السوفييتي؛ مصدرا هائلا للطاقة، ضوءا في البيوت، أمانا من الجفاف والفيضانات، وفرة في صيد الأسماك، آلاف الفرص للعمل ...
صفحة غير معروفة