خامسا:
هدم الحواجز التي كانت العصور السالفة قد أقامتها بين تعامل الغرب والشرق؛ ومكن العالمين من الاختلاط معا، لا بالإتجار الواسع فقط، بل بالاحتكاك اليومي، وفي العادات والأخلاق والعقلية؛ ومنع كل تجاوز قد يجر ذلك الاحتكاك إليه.
سادسا:
سن قانونا للبلد كل مواده متشربة بالرغبة في فتح عصر جديد للأمة، عصر تكون المساواة فيه بين الأفراد تامة؛ ويكون الفرد فيه آمنا على حريته الشخصية من كل عبث، ما دام لا يرتكب جرما، ولا يأتي أمرا تؤاخذه عليه الشرائع.
سابعا:
فتح أذهان المصريين إلى أمرين لم يكونوا ليفكروا فيهما البتة: (الأول) أن مصر والسودان قطران توءمان أبوهما النيل، فإما أن يدوما ملتصقين كما ولدا، وإما أن يكونا متحالفين أبدا، وإلا فللقوي منهما أن يجبر الثاني على إحدى هاتين الخلتين، كما أجبرت ولايات الشمال الأمريكية ولايات الجنوب على البقاء متحدة معها، بحرب الانفصال بين سنة 1861 وسنة 1865؛ و(الثاني) أن لمصر قومية شخصية منفصلة تامة الانفصال عن قوميات الشعوب الأخرى القاطنة في الأقاليم التي كانت تتكون منها القومية العثمانية في ذلك العصر، وإنما فتح أذهان المصريين إلى هذين الأمرين بالحربين اللتين قام بهما في مجاهل السودان وفي سوريا والأناضول؛ وأفضتا إلى استتباب السلطة المصرية على السودان نهائيا وعلى سوريا وإقليم اضاليا، بضع سنين.
ولكن إنجلترا أبت أن تقوم على ضفاف النيل دولة مصرية قوية تجعل طريقها إلى الهند غير آمنة، فألبت على (محمد علي) روسيا وبروسيا والنمسا؛ وأرسلت ضد قواه في سوريا حملة؛ وبذلت في سبيل إثارة الأهلين عليه في تلك البلاد نقودا جمة، فاضطرته إلى الانسحاب من الأناضول والشام والاكتفاء بمصر، ثم استصدرت له من السلطان عبد المجيد، بالاتفاق مع الدول الأوروبية، فرماني 13 فبراير سنة 1841 اللذين بقيا دستور الحكومة المصرية، حتى أبطلت مساعي (إسماعيل الأول) معظم نصوصهما، وأوصلت القطر إلى استقلال تام لا يقيده سوى قيد الجزية السنوية.
فأقام (محمد علي)، بعد هذه الحوادث، أكثر من سبع سنوات على دست الأحكام يعمل بثبات على تنفيذ مراميه؛ ويحوط الدولة الحديثة التي أنشأها بعنايته اليقظة، حتى داهمه الخرف وهو في التاسعة والسبعين من عمره .
فخلفه ابنه الأكبر (إبراهيم باشا)، قائد الجيوش المصرية المنصورة في الملاحم والمعامع، وقاهر الوهابيين واليونان والأتراك، ولكن ولايته لم تدم إلا ثلاثة أشهر: لأن المنون اخترمته وهو في أجد سعيه إلى إسعاد البلاد، بينما أبوه لا يزال حيا.
فأعقبه (عباس الأول) ابن أخيه طوسن المتوفى سنة 1816 - وكان أرشد ذكور الأسرة - فملك حتى سنة 1854 ملكا حاول جهده، في السنين الست التي انتشر كابوسه فيها على الصدور، أن يتنكب بمصر عن الجادة الحديثة التي أدخلها فيها جده العظيم (محمد علي)، ليعود بها إلى دياجير العصور الوسطى المدلهمة.
صفحة غير معروفة