6
غير أن النزاع الذي قام فيما بعد بين (إسماعيل) والقضاء المختلط - وسيأتي بيانه في حينه - أوجب فتور رضى الخديو عن وزيره، ذي النزعة الفرنجية البحتة، واغتنم أعداء نوبار فرصة تغير خاطر (إسماعيل) عليه، واجتهدوا في إفهامه أن وزيره خان أمانته، وأدخل في نصوص القوانين الجديدة ما اتخذ منه القضاء الجديد سلاحه في الحملة الشعواء المشنونة عليه، فاضطر نوبار إلى مغادرة القطر المصري، والإقامة تارة في فرنسا، وطورا في سويسرا، ولكنه بعد أن وضعت الحرب بين الترك والروس أوزارها عاد إلى مصر، وامتزج تاريخ حياته بتاريخ حياتها في سنتي حكم (إسماعيل) الأخيرتين، ثم غادر القطر بعد سقوط (إسماعيل)، ولم يعد إليه إلا عقب إخماد الثورة العرابية، ولو كان حضرها لسارت في غير المجاري التي سيرتها فيها روح عبد الله نديم، المؤثرة على تربية عرابي وزملائه المدنية السطحية.
فعهد إليه (محمد توفيق) برياسة الوزارة في 8 يناير سنة 1884، فبقي فيها إلى يولية سنة 1888، ثم توارى مدة عن مسرح السياسة، وانزوى في عالم تذكاراته الماضية، ولكن (عباس الثاني) استدعاه إلى رياسة الوزارة في سنة 1894، فمكث في منصبه سنة وبضعة أشهر، ثم استقال بسبب اعتلال صحته، وتنحى عن السياسة بالكلية إلى أن توفاه الله في سنة 1899.
وكان نوبار ربع القامة، يميل إلى الطول، قوي البنية، أسمر اللون، أسود العينين، كما أن شعر رأسه كان أسود أيضا سوادا حالكا قبل أن يشتعل شيبا، وكانت تقاطيع وجهه منتظمة، متناسبة متناسقة، ينيرها ابتسام جذاب، يكسب صاحبه القلوب أنى شاء، وكان كلاميا، منطقيا ماهرا، إذا تحدث أروى وأشبع، وإذا ناقش أفحم وأقنع، وامتاز كلامه في كلتا الحالتين برشاقة التعبير، وغزارة المادة، يتخللهما شيء من التهكم القاطع، أو الجزل المتدفق من ينبوع حي، طبقا لما يقتضيه الموقف، مثال ذلك أن الحكومة الإمبراطورية الفرنساوية عقب انفضاض الخلاف على ترعة السويس مع شركتها، منحت نوبار وسام جوقة الشرف من الرتبة الأولى، فأراد الدوق دي مرني - وكان قصير القامة - أن يقلده إياه بيده، فاضطر نوبار، لكي يمكنه من ذلك إلى إحناء قامته كثيرا حتى كاد يركع، ولكنه فعل ذلك بابتسام قائلا: «ليس الثمن غاليا !» وهو يشير إلى النيف والمائة مليون من الفرنكات التي دفعتها الحكومة المصرية لتتخلص من تلك الورطة المدنية التي ألقاها بها تسرع (سعيد).
والمدهش في محادثته أنه كان ينتقل من الوقور إلى العذب، ومن المجون إلى الجد بسهولة غريبة، ويزين حديثه بالمجازات الجميلة، والأمثلة المناسبة، والقصص الموافقة، بدون تكلف وبارتجال غريب، كأن موردها بجانبه، وما عليه إلا أن يدلي دلو قريحته فيه ليخرج بها منه، مثال ذلك الحكاية الآتية التي أوردها في حديث له عن الحال السياسية بمصر، وتنازع حكومتها ودائنيها على أموال فلاحيها: «عصفور كان حاطا على شجرة، وإذا بباز انقض عليه واختطفه، وبينما هو صاعد به إذا بنسر رآه، وأراد اغتصاب فريسته منه، فدار بين الطيرين الكاسرين قتال هائل، فوقف الجمهور يتفرج عليه، ويتساءل أي الجارحين عساه يفوز على الآخر؟ ولم يفتكر أحد في العصفور، ولا حزن على تعاسة حظه!» وأيضا: «مصر كعظمة ثمينة كبيرة يرغب فيها كلبان (فرنسا وإنجلترا)، فيتنازعان عليها، ولا يجرؤ أحدهما على اختطافها، لخوفه من الآخر، ولكن بينما هما يحملقان الواحد للآخر ويزمجران، يتسرب سرب من النمل (الجريك - واليهود والشرقيون على العموم) إلى العظمة وينهشها، ويسمن منها!»
وكان ذا شمائل خلابة، وشيم ساحرة، لا يحقد ولا يميل إلى الانتقام، ويقابل ذات شانئيه مقابلة تشف عن صفاء نية وحسن طوية، فيحول بذلك مجاري العواطف في صدورهم، فيخرجون من عنده وهم إلى أن يكونوا أصدقاء له أقرب منهم إلى البقاء على عداوته.
ومع أنه تعلم منذ حداثة سنه صنعة إخفاء عواطفه وأفكاره - لشدة احتياجه إليها في المراكز التي شغلها، على غربته في الجنس والدين، لدى العواهل المتعاقبين على مصر من ذرية الباشا العظيم - فإنه لم يكن من ذوي الخنوع، أو ممن يتلمسون الحظوة عند الملوك من إذلال أنفسهم بين أيديهم، أو من تحقيرها في خدمات يأباها الشرف، بل ما فتئ متعاليا في شعوره، تعاليا يظهر أثره في مشيته، واستقامة جسمه.
وقد لوحظ عليه أنه في مكاتباته الرسمية كان إذا ذكر الخديو دعاه «مليكي صاحب الجلال»، متحاشيا دائما تسميته «مولاي أو سيدي الخديو صاحب الجلال» كما كان يدعوه باقي وزرائه، لذلك لا يسع الإنسان إلا التعجب من كيف أمكن لمن كانت هذه شيمه أن يستمر في خدمة الملوك، ولا يسعه من جهة أخرى إلا تعظيم قدر العواهل الذين خدمهم نوبار من الأسرة العلوية، وإجلال عقليتهم، والإعجاب على الأخص بسعة صدورهم، فلو كانوا من التعجرف، على ما ينسبه إليهم بعض الكتاب لما استطاع الأرمني، الأبي النفس، البقاء في خدمتهم يوما واحدا، لا الاستمرار عليها دهرا.
غير أنه على إباء نفسه هذا لم يكن من ذوي الخيلاء ومحبي مظاهر الكبرياء والفخفخة الكاذبة، فلم يجر سائسا أبدا أمام عربته، وكثيرا ما كان يذهب إلى الديوان بعربة أجرة، ولم يوجد مطلقا بينه وبين زائريه حاجبا أو حجابا، ولا اضطر قاصدا إلى الانتظار طويلا في «منادره»، بل كان سهل المقابلة إلى حد كثيرا ما جعل قليلي الذوق يتهجمون عليه في أوقات غير مناسبة.
وقد كانت حياة نوبار الشخصية والمنزلية مثالا للكمال والصلاح والبر إلى آخر يوم من أيامه، فمع أنه نادم (إبراهيم) الغضوب، و(عباسا) تيبريوس مصر، و(سعيدا) كومدها وهنريها الثامن والثالث معا، (وإسماعيل) لويسها الرابع عشر - لم يرو عنه أنه خرج مرة واحدة عن طور الجد والكمال، أو بدت منه نقيصة حطت من قدره الأدبي في أعين أولئك القياصرة المصريين، لذلك كانوا يحترمون أنفسهم أمامه، ويأبون أن يشهدوه مظهرا غير كامل من مظاهر حياتهم الفردية، فيصح القول - والحالة هذه - إنه كان لحياة وزير (إسماعيل) هذا الفردية تأثير على تطور الأخلاق نحو الشعور بما يجب أن يراعى فيه اللائق.
صفحة غير معروفة