308

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تصانيف

وكان رئيس حركة النقل أحمد عرابي بك، المعد في الأيام التالية لإضرام نار الفتنة العسكرية المعروفة في التاريخ باسمه، وقد كان فكر الضباط الأمريكيين فيه حسنا جدا، ويقول الكرنيل داي في مؤلفه المعنون «مصر الإسلامية والحبشة المسيحية» إنه كان يكون ضابطا من خيرة الضباط في قطر غير القطر المصري، فاستبدل وأقيم مكانه شاكر الشركسي، وما لبث هذا أيضا أن استبدل وجعل محله الميچر لوشي الأمريكي، ووضع كلا سلفيه تحت إدارته ضد رغبته، لأنه كان رجلا عاقلا يفهم أن تصغير روح ضابط بوضعه تحت إمرة من هو أقل منه درجة، لا سيما إذا كان هذا الرئيس الأقل منه درجة أجنبيا، ليس خير ما يتخذ من الإجراءات لجعل الأمور تتمشى في مجراها الأمثل.

وفي اليوم الثاني من شهر فبراير نقل المعسكر إلى واد غير الأول، وشرع في التحصن، لشيوع الأنباء باقتراب النجاشي، ولكن قلة مواد الطعام، وندرة وصول حتى القليل منها إلى القوة المتقدمة، اضطرت القيادة العليا إلى تقليل عدد البيادة بين يديها، والاستعاضة عنها بزيادة في عدد المدفعية، فصدرت الأوامر إلى بطارية مستوردة من معامل كروب - كانت لا تزال بمصوع - بالإسراع إلى (قرع)، وكلف دنيسون بالإتيان بها، فسار بها توا، ولكنه، وهو يجتاز بها جبل بمبا، قابل رشيد باشا الراجع من (قياخور) إلى عدى راسو (عدرسه)، عملا بالأمر الوارد إليه بالرجوع بسبب قلة الطعام، فأخذها منه بالرغم من امتناعه، وعاد بها إلى (بعرزه)، وحجته في ذلك أن السكة وعرة، وأن البطارية قد تصاب بعطب لو استمرت على سيرها إلى (قرع)، مع أن معظم الوعر كان قد اجتيز، وأن الرجوع بالبطارية كان يقتضي المرور بها ثانية في الشعاب والمسالك التي أتى بها منها بكل صعوبة، علاوة عن أن علي سامح أفندي رئيس فرق المهندسين والحفارين كان قد أنجز عملا ممدوحا في تمهيد الطريق وتسهيلها، وجعلها صالحة لمرور المدفعية. وأول تحصين أقيم كان من النوع المعروف «بالبلوك هوس» في اللغة الإنجليزية، وهو بناء شبيه بحصن يحيط به خندق ومتاريس، أقامه في مضيق قياخور القائم مقام درهلز والكرنل لوكت، بأمر من الجنرال لورنج، وتحت مسئوليتهما، وكان عبارة عن أربعة جدران، لا سقف يغطيها، مفتوحا لضرب العدو، ومبنيا مع ذلك بحيث لا يرى المقيمون فيه العدو القادم لقتالهم، فكأنه بني - والحالة هذه - ليكون مرمى لمقذوفات الأعداء، لا معصما منها.

ثم أقيم حصن آخر في (قرع) جعلوه على شاكلة قلعة، وخندقوا حوله خندقا على أعظم ما يكون من العمق، مع أن البقعة التي اختاروها له لم تكن تغني شيئا، ولا كانت واقعة في جهة يمكن الاستفادة منها حربيا، وهم لو أحسنوا التصرف لبنوه قرب المضيق الذي هناك، بحيث يحمونه، ويحفظون الآبار التي حوله في آن واحد.

ولما استقر بهم المقام، عهد برياسة فرع المهمات إلى علي الروبي أفندي، وقد اشتهر فيما بعد في حوادث الثورة العرابية، وكان ضابطا من أحسن الضباط، وامتدحه رؤساؤه وزملاؤه الأمريكيون، وامتاز في هذه الحملة دون غيره من ضباط الجيش - ما عدا الكونت سرماني - بأنه كان يرى من الواجب عليه إحاطة علم رئيس أركان الحرب بكل ما يجريه ليكون على بينة منه.

على أن تعيينه رئيسا لذلك الفرع لم يعن - كما كان يجب أن يعني - وضع وسائل النقل تحت تصرفه، فاستمر أمرها فوضى كما كان، وما فتئت البغال والحمير، وعددها نيف وألف ومائة، في مجيئها من مصوع وذهابها إليها، وتحمل فوق طاقتها أحمالا قلما احتيج إليها، كتبن وخيام وأثقال مختلفة، مع أن المطلوب إنما كان تحميلها بقسماط ومآكل أخرى، كان الجيش في أشد الافتقار إليها، ومع بهاظة الحمل كان العساكر والصف ضباط الآتون برفقتها يركبونها أيضا، فيرهقونها، ناهيك بفتك الذباب المدعو «تسلتساليا» بها فتكا ذريعا.

ولما طال المطال بالجيش في حصن وادي (قرع) دون أن يظهر الحبوش إلى المناوشة والقتال، ودون أن ترد أخبار عن حركات النجاشي، أخذ السردار ورئيس أركان الحرب يفكران في أمر الزحف إلى (عدوة) للإيقاع به فيها، ولكنهما اختلفا على الطريق التي يسيران منها، فذهب السردار انقيادا إلى مؤثرات النائب (محمد)، رجل ثقته - وكان قد نجا من سجن النجاشي - إلى تفضيل طريق قودوفولاسي-قوندت على ما سواها، ورأى لورنج عملا بنصائح قسيس فرنساوي كاثوليكي يقال له ديڨلو من جمعية التبشير بالإيمان، وأحد كهنة الإرسالية العازارية في تلك البلاد، أن الأوفق الزحف بالجنود من الطريق المجتازة للمقاطعة الحبشية، التي استعمرتها تلك الإرسالية، لما قد يجدونه فيها من أسباب الرخاء وأنواع المساعدة. ولكن بما أن لورنج نفسه كان كاثوليكيا، فأدلاء النائب محمد لم يتعبوا كثيرا في إقناع راتب بأن غرض خصومهم الأدلاء الأحباش الكاثوليكيين من المرور بالجيش في مقاطعة العازاريين إنما هو محض انتفاع أهل تلك المقاطعة بالريالات المصرية التي تصرفها الجنود والخزينة في ابتياع مأكولات وخلافها منهم، وأن رئيس أركان الحرب إنما يعضدهم في تفضيله طريقهم على طريق قودوفولاسي-قوندت، لكونه كاثوليكيا مثلهم، فكفى ذلك لكي تكثر حول الأدلاء والقس ديڨلو الإهانات التي لا مبرر لها، والاضطهادات السمجة. ولكي يقضي أدلاء النائب محمد على جهود مزاحميهم قضاء مبرما، أذاعوا كذبا نبأ قرب دنو النجاشي من حصن (بعرزه) لمهاجمة من فيه، فأصدر السردار أمره إلى قائد الجند هناك بمنع خروج الخيالة من الحصن، وبالثبات على الدفاع عنه إلى النهاية. ومع إقدامه على إقامة ديدبانات فوق الآكام المحيطة، وأمام الخنادق، وبالرغم من علمه علما يقينا أن النجاشي على بعد يومين على الأقل، لم يفكر في تمرين جنوده التمرين اللازم لجعلهم على استعداد لمقابلة الطوارئ، ولا أمر بإجراء الاستطلاعات التي كانت الظروف تقتضيها لدرء كل مباغتة، والوقوف على حركة العدو، فنجم عن ذلك أنه خيل لبعض الجنود ذات ليلة أنهم يسمعون دبيبا، ويرون أشباحا، فظنوا أنفسهم مبيتين، فهبوا إلى سلاحهم مذعورين، وأطلقوه في الفضاء على العدو الموهوم، فأصابوا عدة من زملائهم المنتشرين خارج الحصن، وسببوا فزعا عاما للحامية كلها.

وبعد أيام قدم إلى المعسكر دچاش يقال له (ولده ميخائيل) مع ابني أخيه، وجماعة من أعوانه وأتباعه، فاستقبلوا استقبالا شائقا، وقدمت إليهم القهوة على صوان فضية من مظال الأمير حسن، فلخوف ذلك الرئيس الحبشي من أن يكون وضع له سم فيها، أبى أن يشربها إلا بعد أن ذاقها أحد الحقيرين من أتباعه دون أن يصاب بسوء، وأنعم الأمير عليه بلقب «باشا» ورتبة «فريق»، وأنعم كذلك برتب مختلفة وهدايا نفيسة على ولدي أخيه. وأهم ما استلفت الأنظار في هؤلاء القادمين كثرة القمل المالئ بملابسهم، حتى لقد لاحظ أحد الضباط الأمريكيين أن مهمة بعض رجال حاشية الدچاش كانت منحصرة في الشخوص إلى قميص هذا الرئيس وردائه، لالتقاط تلك الحشرات المقرفة، وطرحها على الأرض كلما لمح ظهورها، دون أن يثير ذلك اشمئزازا في أحد، كأنه من مستلزمات الحياة اليومية ومظاهرها.

وما مضت أيام قلائل على قدوم أولئك الأحباش إلا وطفقت الرسائل تخرج من خيام السردار والأمير بواسطتهم إلى الرءوس والأمراء الحبوش، مستميلتهم إلى ولاء مصر، وممنيتهم بالأماني الكثيرة والأموال الجمة، ولكي يجعلهم راتب يذوقون شيئا من حلاوة تحقيقها طفق يفكر في مكافأتهم مقدما على الأعمال التي كان يطلبها منهم، ووقع في خلده مرة إعطاء خمسمائة ريال، من المعروفة بريالات ماريا تريزا، إلى أحد رجال (ولده ميخائيل) تشجيعا له من جهة، ومن باب المكافأة من جهة أخرى، على أمانته وإخلاصه في خدمة المصالح المصرية، وكاد يفعل ذلك، لولا تداخل ضابط عال في الأمر، وتفهيمه السردار أن المبلغ إنما يحق لذلك الحبشي حينما تظهر نتيجة مساعيه.

على أن نتيجة التراسل بواسطة رجال (ولده ميخائيل)، كانت قيام التصور في مخيلة راتب أنه أصبح يحكم الديار الحبشية بأسرها من عقر خيمته، وابتهاجه بما آلت إليه سياسته الحكيمة، وأبلغه إياه دهاؤه السياسي.

غير أن استغراق السرادر في أحلامه، وتغذي فؤاده بالأماني العقيمة، لم تحولا دون إرساله الضابط أرجنس الأمريكاني إلى الاستطلاع والاستكشاف، صحبة القس ديڨلو وأحد أحباشه المخلصين، فتقدم ذلك الضابط الجسور، بالرغم من خوفه من الخصي فيما لو وقع في أيدي الأعداء، واجتاز صفوف الأحباش، وما زال سائرا حتى بلغ مكانا لا يبعد عن (عدوه) إلا ثلاثين ميلا. ولما وقف على كل ما كان رئيس أركان الحرب راغبا في الوقوف عليه، عاد إلى المعسكر المصري، بعد أن انقاد إلى نصيحة دليله الحبشي، وذبح بضع دجاج ونثر دمها وريشها في الطريق، ليحمل النجاشي على اعتقاد وجود سحر فيها، فيمتنع عن طرقها.

صفحة غير معروفة