304

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تصانيف

ثم تعاقبت الأخبار على دنيسون مضطربة، مزعجة، فعزم على التقدم بقوة إلى شفا الجرف ليتحقق صحتها بنفسه؛ لذلك أمر جماعتين ومدفعين بالسير إلى الأمام، فرفض الجند الطاعة من شدة خوفهم، وإذا بطلب من الملك يوحنا وصل إلى دنيسون يسأله التسليم بمن معه، وإذا بألفي حبشي أو ثلاثة آلاف ظهروا وراء القوة المصرية، مهددين مواصلاتها، ليعززوا طلب ملكهم. وكان نص هذا الطلب كالآتي: «إذا سلمتم أوصلتكم إلى حدودكم بأمان، إلا إذا فضلتم البقاء في بلادي.»

فأجاب دنيسون: «إن التسليم غير ممكن، إلا إذا وافق عليه القائد المصري الغائب في (آسا)، وإني لمبلغه طلب الملك في الحال.» وإنما أجاب بذلك ليكسب وقتا.

وكان يوحنا قد عهد إلى دجاش هاتلو، حاكم الحماسين، وجنوده، في مهمة القضاء على القوة المصرية المعسكرة في (عدى حواله)، ولكنه بعد فوزه على أرندروپ، اتضح له من الأوراق التي استولى عليها أن دجاش هاتلو خائن اتفق عليه مع أعدائه، فحبسه، فأدى ذلك إلى امتناع جنود حاكم الحماسين عن القتال، واستراحتهم على أسلحتهم أربعا وعشرين ساعة.

فاستفادت القوة المصرية المعسكرة في (عدى حوالة) من هذه الفرصة غير المنتظرة، وأخذت تنسحب من مراكزها انسحابا في منتهى الصعوبة في طرق وعرة شائكة، وليس مع كل جندي من جنودها سوى بقسماطتين أو ثلاث بقسماطات، فمرت بجودوفولاسي، والرعب يملؤها، وهي تتوقع هجوم الأعداء عليها في كل وقت، ولولا أن رشدي ودنيسون هددا بمسدساتهما الجنود لفروا ذعرا.

ومع ذلك فإن الأحباش - وكانوا يتعقبونهم من كثب - أسروا سبعة وستين متأخرا منهم قبل وصول القوة إلى (قرع) و(قياخور)، ولكن هذه القوة تمكنت في 18 نوفمبر من البلوغ إلى ممر قياخور، بعد تكبد مشقات لا تحصى، ومتاعب لا توصف، فانضمت هناك إلى قوى رائف بك، واستلم هذا الضابط القيادة العامة، فأشار دنيسون عليه بوجوب إخطار الميچور درهلز بساجانييت بضرورة انضمامه إليه وانتظاره في مكانه، فأبى، فطلب دنيسون منه أن يخطره على الأقل بنكبة أرندروپ؛ ليكون على حذر ويتخذ الاحتياطات اللازمة لنجاته، فأجابه إلى ذلك، وأصدر أمره إلى درهلز بالانسحاب إلى مصوع.

وكان درهلز قد سمع بما أصاب القائد العام، فارتد إلى مصوع عن طريق (عدى رسو) و(أركيكو)، وأصبح في مأمن من الطوارئ.

واستمر رائف على الانسحاب، ولكن جيشه تاه في سهل (حاله)، وضل الجنود طريقهم بين التلال، وأنهكهم التعب، وإنهم لفي حالة خور نفوس، وإذا بصيحة راع علت في الفضاء المحيط، فظنوها صيحة الأحباش، واعتقدوا أن هؤلاء الأعداء المهيبين أوشكوا أن ينقضوا عليهم، فاعتراهم رعب طائش، فألقوا بسلاحهم وملابسهم، والتمسوا الحياة من الفرار.

ولكن الضباط تمكنوا في الليل من جمعهم والسير بهم إلى (عدى رسو) باجتياز جبل بمبا، وبعد قطع مسافة مائة وخمسة عشر ميلا، هناك اطمأن الجند وناموا، ثم ساروا إلى (نيغص) فناموا فيها، وفي صباح اليوم الثاني ساروا إلى مصوع، وكان رشدي ودنيسون، بعد ما تأكدا من زوال كل خطر، قد سبقاهم إليها؛ ليخطرا العاصمة المصرية بما حدث.

أما النجاشي، فإنه سار في 17 نوفمبر إلى (عدى حواله) حيث كانت معسكرة القوة المنسحبة، فإذا بتلك البلدة قد احترقت عن آخرها دون أن يعلم من أحرقها، وبينما هو مقيم فيها، يستمري لذة نصره، أتاه خبر القضاء على متزنجر وقوته، ونبأ فشل الحملة التي زحفت من (المتمة ) إلى الحدود الحبشية، فزاد بذلك سروره. أما متزنجر بك، فإنه كان يتوقع تعيينه هو نفسه قائدا للحملة التي وضعت تحت قيادة الأميرالاي أرندروپ؛ لأنه كان يعتبر ذاته أكفأ الناس للقيام بالمهمة المعهود بها إلى ذلك الدانمركي : (أولا) لوقوفه أكثر من غيره على أحوال الحبشة ودخائلها. (ثانيا) لسابقة خدماته في ذلك الميدان. فلما خابت آماله، وعقد لواء الحملة لأرندروپ، أخذ يفكر في عمل يعمله من تلقاء نفسه، يعود بالفخر العظيم عليه، ويعلي منزلته علوا كبيرا في عيني الخديو، فجمع زمرة من الأتباع والموالين له، واستأجر الأدلاء والخبراء من الحبشان أنفسهم، ونزل في خليج أنثلا، ودخل الحبشة أثناء تقدم حملة أرندروپ، وغرضه البلوغ إلى سهول الملح، أو مضيق صنافة، فلازم الأدلاء ركابه خديعة منهم ومكرا، حتى قادوه إلى شواطئ بحيرة يقال لها «أدسه» في بلاد قوم يدعون «التلتلز». فنصب التعس هناك خيامه، ولما جن الليل أوقد أتباعه النيران للاصطلاء والطبخ، واستعدوا للمبيت، وكان سيدهم قد اصطحب معه في حملته هذه المشئومة امرأته الحبشية، وأولاده وبناته، وجملة من الخدم والحواشي، كأنه ذاهب بهم إلى عرس أو وليمة أعدت لهم على الرحب والسعة، لا داخل في بلاد أعداء يعد ملكهم أنه أهين في كرامته، وامتهن في حقوقه! فأكلوا وناموا والطمأنينة في قلوبهم، والأماني ترقص في أحلامهم.

وإذا بجماعة من الأحباش دبوا إلى مخيمهم في منتصف الليل، وأعملوا السيوف فيهم، فهبوا من نومهم مذعورين، وأرادوا الدفاع عن أنفسهم فلم يمكنهم الخوف من ذلك، فأثخن الحبشان فيهم قتلا وطعنا حتى أفنوهم أو كادوا، ودخلوا على متزنجر في سرادقه، كأنهم شياطين الجحيم في ذلك الليل البهيم، فذبحوه مع امرأته وبناته وأولاده ذبح الخرفان، وذبحوا جميع حاشيته وأتباعه، وأخذوا كل ما وجدوه من سلاح ومؤن وذخيرة وخيام ودواب.

صفحة غير معروفة