وقد رأينا كيف قام هذا بمأموريته، وكانت بلاد خط الاستواء لا تزال مأجورة للسيد أحمد العقاد في الخرطوم، فألحق ببيكر صهره وابن اخته أبي السعود العقاد للنظر في مصالح تجارته، ولكن الرجلين لم يتفقا معا، واضطر بيكر إلى رفع شكواه من أبي السعود إلى المراجع العليا بمصر، واتهامه إياه بمعاكسته، والعمل في الخفاء على تقوية دعائم النخاسة والإتجار بالرقيق، فأدى ذلك بالحكومة إلى استدعاء أبي السعود إلى القاهرة ومحاكمته.
18
وقد رأينا أيضا أن (إسماعيل)، بعد استعفاء بيكر باشا، عين الكرنيل جوردون مكانه، ووعدنا بالتكلم عن أعمال هذا الرجل الطائر الصيت في هذا الباب. «فالكرنيل جوردون ولد في مدينة ولويتش ببلاد الإنجليز سنة 1833، وانتظم في سلك العسكرية سنة 1852، وكان ميالا بالطبع إلى لقاء الأهوال والصبر على المكاره مما اتصل إليه بالإرث عن آبائه وأجداده المعروفين بالبسالة والبأس في الحروب السكوتلاندية، وحضر حصار سپاستوپول سنة 1855 فشهد له بالدربة والإقدام. وفي سنة 1860 سافر إلى الصين، ودخل الجيش، فواقع عدة وقائع دلت على شجاعته وتمام براعته في الفنون العسكرية، فنال من إمبراطور الصين لقب «ساري عسكر». وفي سنة 1865 عاد إلى الجيش الإنجليزي، فرقي فيه إلى رتبة كرنيل.»
19
ثم عين في لجنة الطونة، فتعرف نوبار باشا به في الأستانة، وسأله عما إذا كان يعرف رجلا يريد أن يخلف السير صموئيل بيكر على رأس المهمة السودانية المعهود بها إليه، فقدم جوردون نفسه، على أن تجيز له حكومته القبول، فخوبرت الحكومة البريطانية في شأنه، فأجازت له الخدمة تحت اللواء المصري، فحضر إلى القاهرة، وما لبثت أخلاقه القويمة المستقيمة والحادة معا أن اكتسبت له احترام الجميع وإجلالهم، وكراهة البعض، وكان (إسماعيل) يجله جدا ويقول: «إني أشعر حينما أحادثه أني أمام رجل حق ترغمني رجوليته على احترامه.»
20
فسار جوردون من مصر، ومعه أبو السعود البادي ذكره إلى الخرطوم، فأخذ منها جنودا، في جملتهم إبراهيم أفندي فوزي - الذي صار فيما بعد إبراهيم باشا فوزي، المشهور بحوادث أسره عند الدراويش، وبتاريخه الذي كتبه عن السودان المعاصر - وسار جنوبا، وبعد وصوله جندوكورو بشهرين اكتشف ثلاث زرائب لتجار الرقيق على بحر الزراف، فهدمها، وأعتق الأرقاء الذين وجدهم فيها، وما لبث أن وجد في أبي السعود ذات الروح الخائنة التي كانت قد اتضحت لبيكر باشا، فسجنه وأهانه، ثم أقصاه عن حملته.
21
وفي 11 سبتمبر سنة 1874 جاءه خمسة وعشرون رئيسا من رؤساء السود، وقدموا له الطاعة، وشكروه على مطاردته تجار الرقيق في بلادهم، وفي الشهر التالي ضبط يوسف بك، مدير فاشودة، زمرة من النخاسين ومعهم 1600 رقيق، و190 رأس بقر أتوا بها من بحر الزراف.
ورأى جوردون أن هواء جندوكورو غير صحي، فنقل مركز حكومته إلى اللادو، وذلك في 21 فبراير سنة 1874، وامتدت حكومته من ملتقى نهر سوباط بالنيل الأبيض إلى بحيرة ڨكتوريا نيانزا، وأهم ما اشتغل به تأسيس نقط عسكرية قوية على النيل لأجل حماية البلاد من تجار الرقيق، وحفظ النظام والأمن، فلم تنته سنة 1874 حتى كان قد أسس عشر نقط على النيل الأبيض، وجعل فيها 640 من العساكر السودانية، و150 من العساكر المصرية، و650 من الباشبوزق والدناقلة والجعليين، ثم أسس نقطة في مرولي على نيل ڨكتوريا، ونظم في جيشه عددا كبيرا من الأرقاء الذين حررهم من الزرائب.
صفحة غير معروفة