282

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تصانيف

4

وعاد جعفر باشا مظهر بعد ذلك إلى الخرطوم، وذهب آدم بك إلى مصر طوعا للأمر، فأنعم عليه (إسماعيل) برتبة اللواء، وبالنيشان المجيدي الثاني، ولما كان جعفر باشا صادق قد أصيب بمرض، وقفل عائدا إلى مصر، سمى الخديو جعفر باشا مظهر حاكما عاما للسودان مكانه، مكافأة له على إخلاصه في خدمته (5 مارس سنة 1866). فجمع جعفر باشا العساكر السودانية من التاكة وواد مدني وكردوفان وغيرها، وأرسلهم إلى مصر، وأتى بعساكر مصرية عوضا عنهم.

وكان (إسماعيل) - مذ نظر إلى الميدان الجنوبي نظرته الثاقبة التي ذكرناها، ووطن عزمه على جعله مجال جهوده - قد رأى في الحال: (أولا) أن إبقاء أعلام الدولة العثمانية خافقة على جانب لا يستهان به من سواحل بحر القلزم قد يكون من أكبر العقبات في سبيل تحقيق مراميه، وقد يجر إلى مشاكل مع تلك الدولة في غير الوقت المناسب، ويحسن بمصر اجتنابها بالكلية.

فأقبل يبذل المرغبات المالية لتركيا في التنازل له عن ممتلكاتها هناك، مؤكدا لها في الوقت عينه أن تنازلها له عنها - وهو التابع المخلص لها - لن يخرجها في الحقيقة عن حوزتها، ويكون أقرب إلى «معمورية» تلك الممتلكات عينها، بسبب قربها من مصر وبعد تركيا عنها، وهي «المعمورية» التي تهم الباب العالي فوق كل شيء، كتأكيده، حتى تمكن في نهاية الأمر من حمل الأستانة على إصدار فرمان في شهر مايو سنة 1865 تنازل السلطان بموجبه له عن سواكن ومصوع وتوابعهما مقابل سبعة آلاف وخمسمائة كيس؛ أي سبعة وثلاثين ألفا وخمسمائة جنيه مصري، يدفعها سنويا إلى صندق ولاية جدة لتعمير الطريق الموصل إلى مسجد الله الحرام، والقيام بشئون بيت الله، ومع أن ذلك الفرمان قضى بأن التنازل للخديو دون ذريته وخلفائه، فإن (إسماعيل) لم ييأس من جعله وراثيا في المستقبل.

5

ورأى (ثانيا) أنه سواء أنجح في نزع أعلام الدولة العثمانية عن شواطئ القلزم وإحلال أعلامه المصرية محلها بطريقة سلمية أم لم ينجح، لا بد له من إصلاح جنديته وبحريته إصلاحا كليا يجعلهما كفئين لمقابلة الطوارئ، ولم تكن ثورة السود في كسلا التي روينا أخبارها، واضطراب الأحوال في السودان، الاضطراب البادية مظاهره عيانا في حادثة الملك ناصر وفي حرب «العقال» السابق ذكرهما، وفي حوادث أخرى كثيرة سنأتي على بيانها في حينه، إلا ليزيداه يقينا في وجوب إجراء ذلك الإصلاح، وثباتا على السير في سبيله.

وكان التجنيد بمصر، لغاية ما اختمرت فكرته في دماغ (محمد علي)، آفة مجهولة، وإنما ندعوه «آفة»، لا لأنه «آفة» في الحقيقة، فإنا وإن كنا ممن يكرهون الجند القائم، ويعدونه ضربة على حياة البلاد الاقتصادية - وطالما كان في الواقع ضربة على الزراعة، لا سيما في أيامه الأولى، ولغاية أواخر القرن الماضي - وكنا ممن يعتبرونه داعيا إلى تيقظ نيران الأطماع في قلوب رؤساء الأمم، بل في قلوب الأمم عينها، وحاملا لها على إشهار الحروب، وشن الغارات على من هو دونها بأسا وقوة، كما دلت الحرب الأخيرة عليه، إلا أننا لا نغفل عما في نظام الجندية من مزايا ومنافع مادية وأدبية، لا سيما في البلاد المتعددة الأجناس والملل والنحل، فإنه لو لم ينجم عنه في مثل هذه البلاد من الفوائد سوى إيجاد رباط أخوة بين أفراد تلك الأجناس والنحل والملل لكفى، فكيف وهو مدرسة تمارين رياضية مقوية للأجسام، وتمارين معنوية مدربة للأرواح، ومغذية لها بألبان فضائل فردية كالهمة والنشاط والترتيب؛ واجتماعية كتضحية الأنانية، وكالمروءة، واحترام القوانين، والولاء للوطن وحبه، وهلم جرا. ولكنا دعوناه «آفة»، لأن العقلية المصرية كانت تعده كذلك في أول نشأة نظامه، ولا تزال في ذات عصرنا هذا تعتبره كذلك إلى حد ما.

وربما التمس لها عذر في السابق، ولو أنه لا عذر لها الآن؛ فإن طرق التجنيد ومغبته في بادئ أمره كان من شأنهما إظهاره في مظهر الشيء الكريه جدا أمام أعين الفلاحين، فإن (محمد علي) حاول أولا إيجاد جند من السود، فأخذ يبث البعثات العسكرية في السودان لاقتناصهم، والإتيان بهم إلى أسوان حيث أقام الكولونيل سيڨ، المعروف فيما بعد باسم «سليمان باشا الفرنساوي»، في انتظارهم، ليدربهم ويعلمهم، ويكون منهم جيشا نظاميا مؤلفا على الطريقة الغربية البونابرتية، ولكنه لم يفلح؛ لأن معظم أولئك السود كانوا يهلكون أولا فأولا: إما بسبب المشاق التي كانوا يتحملونها أثناء المجيء بهم من بلادهم، وسوء تأثيرها على صحتهم، وإما بسبب عدم اعتياد طقس مصر، وتغير المناخ عليهم.

فحاول (محمد علي) إذا تكوين جيش نظامي من مماليكه الخاصة وأتباعه المخلصين له، ولكنه لم يفلح أيضا لداعي حقدهم على معلمهم الفرنساوي، ونفورهم من التعلم على يديه نفورا ذهب بأحدهم إلى محاولة الفتك به. فإن سيڨ كان يوما يعلمهم الرماية بالبنادق، فما كان من ذلك الواحد إلا أنه صوب بندقيته نحوه وأطلقها عليه، فمرت الرصاصة بالقرب من جبهته، وذهبت بجزء من قبعته، وهو واقف لا يبدي حراكا، مع علمه أنه مرمى بندقية ذلك المملوك، وبالرغم من أن عينه كانت في عينه، ولكنه بعد أن أظهر للجميع شجاعته، وعدم مبالاته بالموت على تلك الكيفية وثب على المملوك واغتصب بندقيته منه بعنف، ووقف مكانه في الصف وصوبها إلى المرمى وأطلقها، فأصابته في وسطه، فرد حينئذ البندقية إلى الرجل وقال له بانفعال: «هكذا تكون الرماية يا حمار! فتعلم.»

6

صفحة غير معروفة