غير أنه، لدى عودته إلى باريس، بعد أن زار بروكسل لدعوة ملك البلچيك، أيضا، إلى احتفالات السويس العتيدة، أشار الإمبراطور عليه بأن يلين جابنه، مؤقتا، ويدع، جانبا، كل ما من شأنه زيادة توتر العلائق بينه وبين تركيا، ريثما تتحسن الأمور، فإن مسألة اللوكزمبرج كانت قد أبقت، في الهواء السياسي، كهرباء لا تزال تياراتها شديدة، وربما كفت شرارة واحدة لتنفجر منها طلقة تهتز لها الأكوان.
وشعر (إسماعيل) نفسه أن الفرصة غير سانحة لفتح باب ويلات على مصر والشرق؛ وأنه يجدر به أن لا يدع مكدرا، مهما كان نوعه، يحول بينه وبين بهجة الأعياد بفتح ترعة السويس للتجارة العالمية، والفخر الناجم له عنها؛ لا سيما أنه يدري كيف تنال الأغراض في الأستانة، مهما عز منالها.
فأهمل، مؤقتا، مسألة النزاع القائم بينه وبين متبوعه، واعتبر تهديدات تركيا كلاما فارغا، سوف يقضي عليه قضاء مبرما بهاء حفلات فتح الترعة؛ ورأى أن يغتنم فرصة وجوده في باريس للدخول مع بعض الماليين في مخابرات غرضها إنشاء بنك أهلي، وبنك عقاري بمصر، يكون هو أكبر مساهميهما وأهم عملائهما: وذلك لعلمه أن لا استقلال سياسي لبلاد لا استقلال مالي لها.
فعرفه مالي، كان مخصصا لخدمته في تلك العاصمة، بالمسيو ليڨي كريمييه، فأدت تلك المعرفة إلى ربط وثاق صداقة متبادلة بين سموه وذلك اليهودي، وإلى إنشاء البنك الفرنكو المصري، بواسطته.
كذلك تعرف، بواسطة نوبار باشا، بالماليين ا.دي جيرار دين وشركائه، وكانت نتيجة معرفته بهم إنشاء «الشركة العمومية المصرية» للإتجار والاستغلال، قدم الخديو معظم رأس مالها، وكل مصاريف تأسيسها، وكان الغرض منها حفر ترعة كبرى لري جزء الوجه البحري الشمالي الغربي، وإعادته إلى ما كان عليه في أيام البطالسة والرومان؛ وقد سبق لنا الكلام عن ذلك جميعه، وبعد أن كان قد عزم على تتميم مجرى سياحته، والذهاب إلى بطرسبرج، حيث كان قيصر الروس قد دعاه إلى زيارته من القرم، عدل عن ذلك وتوجه إلى (أوبن) للتعالج بمياهها.
فوردت عليه، وهو هناك، دعوة من الباب العالي، للمرور بالأستانة لدى عودته إلى مصر، لكي يقدم الإيضاحات المطلوبة منه عن تصرفه المطعون فيه؛ فرفض، ولكنه ما لبث أن علم أن الباب العالي استدعى أخاه الأمير مصطفى فاضل من أوروبا، وعينه وزيرا للداخلية العثمانية، فقصر مدة إقامته في (أوبن) واستحمامه بمياهها، وأسرع إلى طولون، وركب البحر منها إلى الإسكندرية في 23 يولية.
غير أن عالي باشا لم يدعه في راحة، وأبى إلا أن يخزه بخطابات مؤلمة، فلم يمض على رجوعه إلى عاصمته أسبوع، إلا وأرسل إليه مندوبا خاصا من الأستانة، يحمل خطابا شديد اللهجة، يتضمن كل ما سبق للباب العالي الشكوى منه؛ ويطالبه بإيضاحات سريعة وإلا فإن الدولة العلية تعتبر تعدياته خارقة لحرمة فرمان سنة 1841 وتتخذ الإجراءات التي يستدعيها ذلك.
وكان (إسماعيل)، قبل استلامه هذا الكتاب الجارح، أعد وفدا تحت رياسة شريف باشا لكي يرسله إلى الأستانة، بقصد إزالة سوء التفاهم الواقع؛ وزوده بما يجعل لكلامه وقعا حسنا لدى رجال الدولة العثمانية؛ ولكن شريفا باشا لدى اطلاعه على رسالة عالي باشا التهديدية، أبى الذهاب إلا مشمولا بتذكرة مرور من لدن القنصلية الفرنساوية، فكلف (إسماعيل) إذ ذاك طلعت باشا بالمهمة، وسلمه ردا على رسالة عالي باشا، برر نفسه فيه من التهم المعزوة إليه، ومائة ألف جنيه ليعزز بها ذلك التبرير.
فلم يرق الرد في أعين رجال تركيا، ولا أقنعهم المبلغ، لا سيما بعد أن قرنوه بما ناله غيرهم، قبلهم، من ندى الخديو المصري، فأرسلوا إلى (إسماعيل) بلاغا نهائيا، طلبوا فيه منه سبعة أمور:
أولا:
صفحة غير معروفة