والواقع هو أن الأمير المتولي، الذي يعلم حق العلم أن مآل عرشه لغير ابنه، لا يمكنه أن يعتبر ثروة البلاد المسلمة مقاليدها إليه إلا فريسة لأطماعه، ومنجما يستنفده في إغناء نفسه وذويه؛ فلا يهمه شقيت البلاد أم سعدت، عاشت أم هلكت، ما دام جيبه ممتلئا وخزينته عامرة.
والأمير، في الأسرات التي يئول العرش عندها من أرشد الأفراد فيها إلى الأرشد، قد تحمله العواطف الإنسانية الطبيعية على كره عموم أعضاء أسرته، لتخيله، في كل منهم، خليفة يخلفه، أضرارا بخلافة بنيه، فيهمه، والحالة هذه، أن يمتص، وهو على قيد الحياة، خيرات البلاد كلها، لكي لا يترك منها شيئا، بعده، لأولياء عهده الاحتماليين المكروهين منه، ومغبة تلك السيئة إنما تعود على البلاد أكثر منها على أفراد أسرته، غير بنيه.
والدليل على أن حب (إسماعيل) لبلاده كان رائده في سعيه، أكثر من كل عامل غيره، هو أن هواه كان أن يخلفه على العرش إبراهيم حلمي ابنه من الأميرة جنانيار هانم، أعز زوجاته عليه، والتي سعت سعيا محمودا في سبيل نجاح مقاصده، ومع ذلك فإنه سعى لأكبر أولاده (محمد توفيق)، بالرغم من أنه لم يكن يحبه محبته لباقي أخوته. (فإسماعيل) إذا، لأنه كان يكره أخاه وعمه من جهة، ولأنه كان، من جهة أخرى، وعلى الأخص، يحب بلاده، أقبل يسعى في الأستانة ليحمل أولي الشأن فيها على تغيير نظام الوراثة بمصر، وحصرها في ذريته دون باقي الأسرة المحمدية العلوية.
ولحسن طالعه، كان ميله إلى ذلك ونجاحه فيه يوافق هوى نفس عبد العزيز المكنون.
فعبد العزيز، أيضا، كان يشتهي أن يغير نظام الوراثة في أسرة عثمان؛ وهو أيضا كان يتمنى أن يحصرها في ابنه يوسف عز الدين، وفي بكر أولاده، بعده، فبكر أولاده إلى الأبد، ولكنه لم يستطع بلوغ أمنيته، بالنسبة لقوة التقاليد، فكان يرغب، والحالة هذه، في نجاح (إسماعيل) في سعيه، ليكون ذلك سابقة، يبني هو على قاعدتها بناء مجهوداته.
على أن ذلك لم يمنعه من التظاهر بالرفض في بادئ الأمر لينال من مال (إسماعيل) وهداياه ما كان التغيير المطلوب به جديرا؛ ولكي تكون الظواهر غرارة أكثر مما هي، فتبدو الصعوبات للساعي أكبر من حقيقتها، أوعز إلى بعض جرائد الأستانة بأن تكتب في الموانع القائمة دون تحقيق رغائب والي مصر وأن تبالغ في وصفها.
فانخدع (إسماعيل)، أو تخادع، إلى حد استئجار جرائد أخرى لتحبذ التغيير وتظهره أمام الملأ في مظهر العمل المفيد للبلاد، والذي لا مندوحة لها عنه، لتتقدم باطمئنان في معارج الفلاح والرقي والرخاء.
ولكنه، من جهة أخرى، فتح يده سخية في السر والجهر: فجرت خيرات النيل ذهبا وفضة على ضفاف البوسفور، حتى لم تبق هناك ذات واحدة ممن يرجى في مساعيها تقديم وإنجاح للمسعى المصري، إلا ونالها من عطاياه وجوده الحاتمي ما جعلها تدأب على العمل له.
7
ولو أراد التاريخ حصر قيمة ومقدار كل ما صرف في تلك الأيام في الأستانة، وتعداد الأبواب التي صرف فيها، لأعياه الأمر وسقط دونه كليلا؛ لأن المبالغ المصروفة تجاوزت عدة ملايين من الجنيهات، ومن البديهي أن (إسماعيل) لم يكن وحده في ذلك الصرف، فكما أنه كان يجود بالأموال والهدايا، من جهة؛ وتجود أمه بأضعاف أضعافها لتساعده على تحقيق مطمعه، كان أخوه وعمه، من جهة أخرى، يبذلان كل ما في وسعهما لإخفاق مسعاه، وتخييب أمانيه، لما في تحقيقها من الأضرار بمصلحتيهما، ولكنه تغلب في نهاية الأمر؛ ومقابل ما بذل، وما وعد ببذله، ونظير رفعه الجزية السنوية المفروضة على مصر من ثمانين ألف كيس إلى 150 ألفا - أي من أربعمائة ألف جنيه مجيدي إلى سبعمائة وخمسين ألفا، أصدر السلطان فرمانه القاضي بانتقال كرسي الولاية من متبوئ كرسيها إلى بكر أولاده، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضا، وهلم جرا؛ وذلك في 17 مايو سنة 1866
صفحة غير معروفة