وأما حلوان، فإن الخديو - بعدما ظهرت مزايا مياهها المعدنية الكبريتية، ومنافعها للمستحمين بها - وطن نفسه على جعلها «إكس لي بن» مصرية شتائية، يؤمها رعاياه والسائحون (التوريست) للاستفادة منها، فما فتئ يشجع على إقامة المباني والفنادق فيها، بهمة لا تعرف الملل؛ ويقدم، هو نفسه، المثل الصالح في ذلك ، بإنشاء قصر فخم في تلك الضاحية العاصمية، للأميرة والدته سنة 1877 إلى أن تم له مرغوبه؛ وبرزت حلوان في حلة من الترغيب حملت الكثيرين من السراة على اتخاذها مقرا لهم، وكثيرين من الغربيين على قصدها، في فصل الشتاء، لتمضيته فيها.
وبلغ من إعجاب الناس بهوائها ومياهها أن المسيو بلان
Blane
صاحب كازينو منتي كارلو، الشهير بإمارة مونكو، وكازينو همبرج بألمانيا، عرض على الخديو مبلغا جسيما من المال ليصرح له بفتح كازينو فيها للمقامرة، على شاكلة ذينك الكازينين؛ فاعتبر (إسماعيل) مليا، عواقب إقامة مثل ذلك المحل؛ ونظر إلى المستقبل نظرة من يستطلع أسراره، فرأى أموال أسرته ورعاياه تذهب إلى غمرات ذلك المكان؛ فتنباع منه مأساآت تلبس العائلات لباس السواد والحداد؛ فرفض، ورفض كذلك، للأسباب عينها، مبلغا أكبر، عرضه عليه الرجل ذاته، ليصرح له بفتح كرسال للمقامرة في القاهرة.
فلو كان (إسماعيل) الأمير المتعطش إلى المال، الذي يصفه أعداؤه، الراغب في الحصول على النقود من أي باب ولو ضارا برعاياه، لما أحجم عن قبول المبلغين الكبيرين اللذين عرضا عليه، ولبرر نفسه بحجة رغبته في صرفهما فيما يعود على مصر بالخير، سابقا في تبرره بهذه الوسيلة، المستر سسل رودز المشهور، الذي يروى عنه أن الظروف جمعته، يوما، في حفلة مع الكولونيل جوردن، عقب عودة هذا الرجل الپوريتاني المذهب من الصين، حيث كان قد أخمد ثورة النايپنج، فقص جوردن على الحاضرين كيف أن إمبراطور الصين، لكي يكافئه على خدماته العديدة الجليلة، لا سيما في إخماده نيران تلك الثورة الهائلة، التي كادت تذهب بعرشه، أخذه إلى حجرة ملأى ذهبا، وقال له: «خذ كل ما فيها، فإنه مكافأتي لك على ما فعلت!» فرفض جوردن قائلا: «إني لم أعمل إلا الواجب علي، ولست أستحق على أدائي واجبي مكافأة ما!» فأظهر سسل رودز تأففا من ذلك، واستنكارا له، فالتفت جوردن إليه وسأله: «ترى، لو كنت مكاني، أكنت تقبل؟» فأجاب سسل رودز: «بلا شك! وكنت استخدمت ذلك الذهب في اكتساب إمبراطورية جديدة لبريطانيا العظمى!»
على أن أكبر تعديل اجتماعي أدخله (إسماعيل ) على حياة أمته المصرية القومية، وأكبر هزة، بالتالي، هز بها عقليتها، في صميمها، إنما هو عمله على إبطال النخاسة والرق وتحرير العبيد.
24
فإن الرق ما فتئ رفيق الحروب الإسلامية، حيثما دارت رحاها، وأليف الحياة العائلية الإسلامية، حيثما قامت معالمها. لا لأنه أصل من أصول الدين والحشمة الإسلامية، كما كان يعتقد الأوروبيون؛ ولكن لأنه - من الوجهة الحربية - موروث عن القرون التي سبقت الإسلام، وقد عمل الإسلام على محو هذا الإرث من نفوس المسلمين فأوصى النبي
صلى الله عليه وسلم
كثيرا بالرقيق خيرا وحض على عتق من وقع في الرق ووعد بالثواب الجزيل من الله تعالى على هذا العتق حتى أصبح من قواعد الإسلام تشوف الشارع للحرية الشخصية، ولكن المسلمين بعد القرون الأولى انغمسوا في أسباب الترف، واندفعوا في تيار اللذات؛ فأدى ذلك بهم إلى الخمول والكسل اللذين أصبحا - فيما بعد - من أكبر أسباب انحطاطنا في مضمار الحياة العملية، وعدم أخذنا بما قيل لنا من أن «نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا»؛ وأدى بنا من جهة أخرى، إلى حمل قول الكتاب العزيز
صفحة غير معروفة