ولكن الضائقة المالية ما عتمت أن اشتدت، وازدادت حلقاتها تصلبا، فصرف البناء الفخم، الذي أنشئ ليكون مدرسة لبنات الوجهاء، عما قصد به منه؛ واضطرت الأميرة تشسما آفت خانم، بل إدارة الأوقاف ذاتها، إلى الاقتصاد في الإنفاق على مدرستيهما، ثم، لما سارت تلك الأميرة السنية إلى المنفى، بصحبة بعلها الجليل، سنة 1879 ضمت المدرستان الواحدة إلى الأخرى؛ وبلغ، في السنوات التالية، من تضاؤل الإنفاق عليهما، ما آل بهما، إلى الخروج عن دائرة الغاية التي أنشئتا من أجلها، وصيرورتهما، ملجأ المعوزين، يذهبن إليه ليصبن منه قليلا من الطعام المادي على سبيل الإحسان، وأما مدرسة تربية الخادمات، فألغيت، كذلك، بعد تنازل (إسماعيل) عن العرش، بالرغم من شدة الاحتياج إليها، إرضاء لتحتيمات أصحاب الديون.
ألا، قاتل الله دائني مصر في ذلك العهد، قدر ما أساءوا إلى البلاد ونهبوا من أموالها، ووقفوا في سبيل خيرها! وأغدق سحائب رضوانه على أرواح (إسماعيل) وأزواجه عداد ما نووا من عمل خيري لبنات مصر وغاداتها في بابي تعليمهن وتربيتهن!
أما مدرسة القبة، وكانت ابتدائية وثانوية معا، فقد أنشأها الأمير محمد توفيق باشا، ولي العهد، على نفقته الخاصة، وجعلها قسمين: داخلية وخارجية، فبلغ عدد الطلبة الداخلية خمسين، والخارجية أربعين، وامتازت عن سائر المدارس التي من نوعها بالعناية الخاصة التي حاطها الأمير بها، والتي جعلت الطلبة بمأمن من كل عوز. (4) المدارس التي أنشأتها الطوائف الشرقية غير المسلمة
إليك بيانها:
مدارس الأقباط الأورثوذكس
دبت في الأقباط الأورثوذكس روح التعلم، بما بذله من مجهودات في هذا السبيل بطريركهم الأنبار كيرلس الرابع المشهور عندهم بلقب «الأنبا كيرلس الأكبر محيي العلوم والمدارس»، فما فتئوا يسلكون الطريق التي اختطها لهم، حتى أصبحت مدارسهم في عهد (إسماعيل): اثنتي عشرة مدرسة بالقاهرة، وواحدة بمصر العتيقة، وواحدة بالجيزة ، ومدرستان بالإسكندرية؛ يتعلم الطلبة فيها: القبطية، والعربية، والفرنساوية أو الإنجليزية أو الطليانية، والحساب، ومبادئ الهندسة، والتاريخ، والجغرافيا، وبعض منطق، والأناشيد الكنيسية.
وذلك خلاف مدرسة إكليريكية بالعاصمة، يتعلم فيها اثنا عشر طالبا من راغبي الكهنوت، اللاهوت، واللغة القبطية، والعربية، والغناء الكنيسي.
وكانت أهم هذه المدارس، ولا تزال، المدرسة الكبرى البطريركية، فقد بلغ عدد الطلبة فيها سنة 1876 ثلاثمائة وتسعة وسبعين: منهم 302 أقباطا أرثوذكسيون - 40 منهم داخلية، والباقون خارجيون - و16 مسلما، ويهودي واحد، وثمانية أرمن، وخمسة يونانيون، وسوري واحد، وكان عدد أساتذتها ثلاثة عشر، لهم ستة مساعدون، وعليهم ناظر، رجل فاضل يقال له: المسيو ادوار زار.
وكانت هذه المدرسة تمتاز عن مثيلاتها بالامتحانات العامة، التي كانت تعملها، سنويا، في حفلة فخمة، يرأسها عادة وزير المعارف - وكان في الغالب علي مبارك باشا - ويحضرها شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية وجم غفير من الأكابر والأعيان والسراة ووجوه البلد؛ ولم يكن يشوبها سوى الجزء منها، الذي كان يقوم فيه خمسة من التلامذة، وهم مرتدون ملابس كهنوتية، ببعض شعائر طقسهم الكنسي، فيوجبون فتورا في نفوس الحاضرين من غير بني مذهبهم، ويذهبون عن الحفلة، بشكلها المدرسي البحت، المرتاحة أفئدة الجميع إليه، ليصبغوها بصبغة دينية لا يرتاح إليها إلا قلوب البعض، وكانت الحفلة في غنى عنها.
وكانت مدرسة حارة السقايين، بتلامذتها البالغ عددهم 174 - أي 171 قبطيا، ومسلمان، وأرمني كاثوليكي - تلي المدرسة البطريركية في الأهمية بمصر.
صفحة غير معروفة