تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

إلياس الأيوبي ت. 1346 هجري
140

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

تصانيف

ونجم عنها زيادة على ما ذكر، تغلب النظام العسكري على معظم المدارس، ولا نستطيع أن نجزم أكان تغلبه هذا خيرا أم شرا عليها، لأسباب لا تخفى على القارئ اللبيب: فإن البلاد كانت في حاجة إلى روح الشدة في حفظ النظام، بقدر ما كانت في حاجة إلى انبثاث روح الحرية والاستقلال فيها، ففقدانها الروح الأول كان من شأنه أن يحرمها فائدة التعليم؛ وفقدانها الروح الثاني كان من شأنه أن يديم استكانتها إلى الذل الموروث عن القرون السالفة، وبما أنا لسنا من مذهب القائل بتفضيل الجهل، مع الاستقلال، على العلم، مع عدمه؛ لأننا على ثقة تامة من أن الجهل جار، حتما، في نهاية الأمر، إلى الاستعباد والذل، والعلم مفض، حتما، في نهاية الأمر أيضا، إلى الاستقلال والعز، إلا إذا اعترض خور في الأخلاق سبيله؛ فإنا نتردد في إبداء حكم بات في الشأن الذي نحن في صدده.

وأما قلة الرجال فلسببين:

الأول:

أن الفترة المشئومة ما بين سنة 1848 وسنة 1863 أنقصت كثيرا عدد المصريين أولي الكفاءة لمباشرة شئون التعليم، وأضاعت ممن تبقوا، الثقة في أنفسهم والاعتماد عليها، فنجم عن ذلك أن وزارة المعارف كانت في اضطرار دائم إلى استدعاء نظار المدارس للتعاون بهم على الأعمال الإدارية والفنية فتعطلهم عن أشغالهم؛ وأن نظار المدارس باتوا يستشيرون الوزارة في جميع أمورهم حتى التافهة منها - فتتعرقل حركة إدارتهم - ونتيجة الأمرين اختلال النظام في طرق التعليم وفي نفاذها.

الثاني:

هو أن ازدياد عدد الطلبة، لا سيما الداخلية، ازديادا مطردا في السنوات الأولى من حكم (إسماعيل) أدى حتما إلى ازدياد الشعور بالحاجة إلى معلمين، وإلى وجود عدم الكفاية منهم، فإن الأهالي، بعد أن كانوا في أيام (محمد علي) وخلفائه الأولين، يمانعون في تعليم أولادهم ممانعتهم في تجنيدهم - لارتباط الأمرين معا في ذلك العهد - فيضطرون (محمد علي) إلى استعمال القوة والتعسف في أخذهم منهم وإرسالهم، قسرا، إلى المدارس التي أنشأها، ما لبثوا أن رأوا الفوائد الجمة العائدة على المتعلمين من أبنائهم، ورأوا ولد هذا الفلاح الحقير، وابن ذلك الصانع الوضيع يبلغان، بفضل العلم الذي تلقياه، أعلى مراتب التوظف، ويتحليان برتبة البيكوية بل برتبة الباشوية الرفيعتين؛ ثم رأوا أن التعليم ليس مجانيا فقط، بل مكافأ عليه، ومحوطا بجميع صنوف العناية والهناء، أقبلوا بكل انشراح، يتزاحمون على أبواب المدارس، كل يلتمس لابنه فيها محلا، ويرجو له نصيبا في المستقبل، كنصيب الذين أسعدهم الحظ من أولاد أقرانه، بل من أولاد الأحط منه قدرا.

فأخذت الحكومة منهم، في الأول، ما كان في استطاعتها أخذه؛ ولكنها ما لبثت أن رأت نفسها أمام المعضلتين، اللتين ذكرناهما: معضلة المال ومعضلة الرجال، إلا واضطرت إلى الوقوف عند حد معلوم، والبحث عن طرق لحلهما.

أما معضلة المال، فإن الوزير الحكيم علي مبارك باشا رأى أن خير حل لها هو السير على الخطة المتبعة، إذ ذاك، في المدارس الأوروبية؛ أي: إبطال مبدأ المجانية البحتة، وتكليف الأهالي بالإنفاق على تعليم أولادهم، ولو إنفاقا يسيرا في بادئ الأمر، فأنشأ مدرستي ماريستان قلاوون والقربية، وفرض فيهما دفع مصاريف شهرية على الراغبين من الأهالي في إلحاق أولادهم بهما، ولما كانت تلك المصاريف زهيدة جدا، على كفايتها للإنفاق على الأساتذة القائمين بشئون التدريس في كلتا المدرستين، أقبل التلامذة عليهما إقبالا عظيما، وبلغ عددهم فيهما، في مدة قصيرة مائتين وخمسين طالبا فباتتا مثالين لجميع المدارس الابتدائية التي أنشئت بعدهما.

وأما معضلة الرجال، فإن دور بك رأى أن حلها لا يكون إلا بإنشاء المعاهد لتخريج مدرسين للمدارس الابتدائية والمدارس الثانوية، فأنشأ مدرسة دار العلوم، ثم أنشئت بعدها المدرسة المدعوة بالنورمال: (الأولى) لتخريج أساتذة يقومون بتدريس كل ما كانت اللغة العربية أساسا لتعليمه؛ و(الثانية) لتعلية مستوى التعليم في المدارس الابتدائية، وتخريج أساتذة يقومون، على الأخص، بتدريس اللغات الأجنبية، والرياضيات والعلوم الأخرى.

ولكنه، لما كان لا بد من الالتجاء إلى الأزهر، لأخذ الطلبة المتقدمين فيه إلى مدرسة دار العلوم، وتخريجهم فيها مدة سنتين، ليرسلوا بعدها إلى مدارس الريف، ليدرسوا فيها ، كان على الأساتذة، المتخرجين من هذه المدرسة، شيء من المسحة الأزهرية، جعلهم لا يرون قاعدة للتعليم خيرا من التي شبوا عليها في ذلك المعهد الديني العظيم.

صفحة غير معروفة