5
وكان سعيد يقول في هذا الصدد: «إني لأخشى أن ينظر جوادي شذرا في طرقات الإسكندرية إلى إفرنجي، فيهب ويطالبني بتعويض».
6
وتذكرنا هاتان النكتتان بما كان عليه (سعيد) من خفة الروح وظريف الملح، بسبب تربيته الفرنساوية، ومنبته الفرنساوي البحت، فقد ذهب إلى زيارة لندن مرة، أيام إقامة أول معرض فيها، فإذا بطقسها لم ينفك مغيما، ماطرا، طوال مدة إقامته هناك، فبينما هو، ذات يوم، يتفقد إحدى حجر ذلك المعرض، رأى شعاع شمس نافذا من السقف الزجاجي إلى الداخل، ومنتشرا فوق مكان من المعروضات، كأنه وضع فيه خصيصا، فالتفت (سعيد) إلى ذي الفقار باشا، مراقب عموم ماليته، ونديم سفره، وقال له باسما: «ألا ترى ما أندر الشمس هنا! فقد بلغ من ندرتها لديهم أنهم أصبحوا يعرضونها ضمن نفائسهم».
7
ولكن (سعيد) المسكين كان كفرنساويي أيام الكردينال مازارين: إذا تململوا من ضريبة، وضعوا فيها أغنية سخرية، ورددوها مدة، دون أن يمنعهم ذلك من دفع الضريبة، حتى كانت عادة الكردينال أن يقول عنهم بفرنساويته المشوبة بإيطالية: «إل كانتارون ما إل پاجرون» أي: سيغنون؛ ولكنهم سيدفعون.
و(سعيد) كان، إذا تململ من جور طلبات التعويضات، انتقم لنفسه بنكتة كالتي ذكرناها، ثم أفضى به الأمر إلى دفع المطلوب.
فأدى ضغط ذلك الدين السائر الباهظ على عاتق الخزينة المصرية إلى ضائقة مالية شديدة باتت معها مرتبات الموظفين والمستخدمين، في سني حكمه الأخيرة، لا تصرف لهم إلا نادرا؛ وإن صرفت، فبمطل وبطء، ونجم عن عدم صرفها أن أوراقا مالية من نوع جديد، لم يرو عن مثلها أبدا، برزت إلى عالم الوجود في الأسواق المصرية، وكانت عبارة عن تحاويل على المالية المصرية أخذ يحررها أولئك المستخدمون والموظفون ويسلمونها إلى ممونيهم، سدادا لمطلوباتهم.
فبات يحيط بأبواب المالية جيش من البدالين والقصابين وخلافهم، لا تستطيع الحكومة التخلص منه ومن طلباته: (أولا) لندرة النقود في خزائنها؛ و(ثانيا) لعدم تمكنها - بسبب أن معظم أولئك المطالبين أجانب، يحميهم نظام الامتيازات - من فض جموعهم بكرابيج رجال الشرطة، كما كانت تفض تجمهر الدائنين الوطنيين من أرباب الحرف والصناعات ورجال المقاولات، الذين اشتغلوا لحسابها وداينوها؛ فإن مطالب هؤلاء الأهالي كانت تدفع إليهم لكما وركلا وسياطا، في نهاية الأمر، ولو استعملت الحكومة طريقة الضرب هذه مع أولئك الأجانب، لفتحت على نفسها أبواب ويلات لا فراغ منها إلا بدفع تعويضات مالية جسيمة ، وتقديم ترضيات أدبية تحط من شأنها حطا كبيرا.
فكانت تلجأ، إذا، إلى المماطلة والمراوغة؛ ولكنها تضطر إلى الدفع بعد استنفاد كل وسائل التعطيل والتأجيل والتسويف.
صفحة غير معروفة