هذا رأي رجل إنكليزي منصف لا ينسى مصلحة أمته حين يدل على مصلحة مصر ومصلحة العدل لذاته في مصر، ولكن أبلغ من هذا قوله: «أليس عجيبا أن تبقى مصر كل هذا الزمان محرومة من الحقوق التي نالتها جمهورية سان دومنجو وجمهورية سان سلفادور وهما حكومتان صغيرتان، سادتهما الفوضى؟! أليست مصر قادرة على القيام بما تقوم به هاتان الحكومتان الصغيرتان اللتان يحكمهما العبيد؟! هل ينكر علينا أحد أن أهل مصر تعلموا في مدارسهم المنتظمة التي تفوق بعض المدارس الأوربية كل ما يتعلمه الغربيون في مدارسهم؟ فلماذا يحرمون من التمتع بالحقوق التي يتمتع بها العبيد السود في جمهوريتهم الحقيرة؟!».
حجة تنهض بالحق فلا دافع لها، أنهضها صاحبها منذ ثلاث عشرة سنة، فكيف إذا ضرب الحق بها الآن وجه الباطل؟
نحن نتمشى مع السياسة إلى أقصى غايات التسامح الممكنة، ونشهد الناس على أننا نقدم حسن الظن بين أيدينا، ولكنا نفتقر إلى دلائل تؤدي إلى أدنى مراتب الإقناع بحسن الظن. نقول: كيف توضع شريعة القضاء الجديدة؟ ومن الذي يضعها؟ إن الذي رأيناه أنها وضعت على نحو ما قال صاحب كتاب «تحرير مصر» من التذبذب بين الأهواء المختلفة والمنافرة الشديدة، وستوضع على هذا النحو إذا نسخت صورتها التي فرغوا من وضعها، أما الذين وضعوا هذه الصورة، أو سيضعون الصورة الأخرى، فرجال لا ننكر أن لهم كفاءة فيما هو خاص بهم، هم كانوا قضاة ومحامين وإداريين وماليين، وهم أصحاب كرامة تأبى لهم أن يقولوا في أنفسهم إنهم شراع، أو إن معرفة القانون في مسائلة القضائية، ومعرفة الإدارة في صنوفها الإدارية ، ومعرفة الفنون المالية والسياسة المادية، هي الكفاءة كل الكفاءة لوضع الشرائع وتكوين روح العدل، ولكن هؤلاء هم الذين وضعوا شريعة القضاء المصري في صورته التي شغلوا بها، فكيف تكون هذه الشريعة ذات قوام ثابت، ومنهج عدل صحيح؟
بل فوق أنهم فعلوا ما ليس لهم أن يفعلوه، استعاروا للعدل المصري عناصر غريبة قضت السياسة أن تحمل عليها شرائع القضاء في الهند وغيرها من المستعمرات، وهم باقون على استعارة هذه العناصر إذا قدر أن توضع شريعة القضاء المصري مرة أخرى، فكيف يجوز أن يكون الناس سواء فيما يقضى به في أوطانهم؟ لئن جاز أن تصلح الشرائع الفرنسوية والألمانية والروسية والأمريكية... إلخ إلخ مكان الشريعة الإنكليزية في بلادها؛ جاز أن تصلح في مصر شريعة ليست إلا خليطا متعجنا مرتبكا مستعارا من شرائع المستعمرات في الشرق والغرب.
ولكن السياسة هكذا تريد، والأمة لا تريد ما تريده السياسة وشتان بين إرادة يأباها الحق فينفر منها، وأخرى يرضاها فيسكن إليها، على أن الله لم يخلق للمصريين عقولا تفهم الدرس الذي يراد أن يأخذوا به في هذا الشرع الجديد، ذلك أمر الله، والله غالب على أمره.
الفصل السادس عشر
درس في الإدارة
«إن للمصريين ما للأوربيين من الآمال، وقد ساعدتهم صحافتهم الوطنية على الانتباه إلى الحركة الكبرى الحاصلة في العام الآن»
المستر روبرتسون سنة 1905
قد يفترض الإنسان الشيء وهو غير كائن؛ مجاراة لخصمه، ليصل به إلى محل الإقناع بالحجة القاطعة، وليتصور الأمر المحذور بصورته التي يدل عليها قياس المستقبل بالماضي فيحذره ويتقيه.
صفحة غير معروفة