إن وازع العلم أبلغ تأثيرا في النفس من وازع القوة، وقد كان يجب أن يكون أول يوم فتح به ثلث القرن الأخير أو يوم يفتح به الإصلاح الجديد خاليا من كل عيب، خالصا من شائبة النية المنحرفة عن الاستقامة، قالوا يومئذ إن الإدارة مريضة تحتاج إلى العلاج، وكان يجب أن يقولوا إن بناء العلم الذي وضع أساسه محمد علي ورفع قواعده خلفاؤه من بعده يحتاج إلى إكمال، ولكن الذي حصل غير ذلك، الذي حصل أن دك بناء العلم، وعولجت الإدارة بعقاقير تضاعف الداء، ووجدت مضاعفات لم تكن موجودة من قبل، وهي انسياب سيل المدنية الفاسدة على البلاد، وتفتق الشهوات الشيطانية بما فعله الطمع في ركوب متن هذه المدنية، أمسى الناس وأصبحوا، فإذا هم في ظلمة حالكة، مصباح العلم ينطفئ قليلا قليلا، وفساد الإدارة يتجلى بأشكال وألوان من المغارم، وشيطان المدنية الفاسدة يغوي الناس أن يلقوا بأنفسهم في مهاوي الهلاك، وسوء العمل لحفظ الثروة الفردية يقتلعها من جذورها، أعجيب بعد هذا أن تكثر الجرائم، وتشيع المظالم، ويطغى الفساد، ويقتل الناس بعضهم بعضا؟ كلا، ليس هذا عجيبا، ولكن العجيب أن يكون خلافه.
وقد توفرت الأمثلة من غرائب العهد المعروف، وربما كان أغربها أن يصدر الأمر القاطع فيتلقاه موظفو الإدارة المصريون بالطاعة والتنفيذ، فإذا نشأت عنه أمور يوجب القانون أن يكون لها قصاص، سيق الموظف المصري الذي سمع وأطاع ونفذ إلى موقف القصاص، فلا يجد ما يدافع به عن نفسه إلا أن يقول في نجواه: «غيري جنى وأنا المعذب فيكم»، ولم تزل الذاكرة تحفظ قصة أولى بها أن توضع بجانب القصص التي تنسب إلى الشرقيين للسخرية منهم، ولم يفت الصحف الوطنية أن تشير إلى قصتنا هذه في حينها، غير أننا نرويها تفكهة للقراء.
قالوا في السنة الماضية: إن أحد معاوني الإدارة المصريين رفع قضية على الحكومة يطالبها بتعويض لأنها فصلته عن وظيفته بسبب غير قانوني، أما السبب الذي قضى بفصله فهو أن عظيم الكفاءة شديد الذكاء؛ ولذلك كان ينتقد أعمال بعض زملائه، فعلم المفتش الإنكليزي خبره فأمر بنقله إلى إقليم آخر ظهرت فيه كفاءته العظيمة وذكاؤه الشديد أيضا، ولكن المفتش علم ذلك مرة أخرى فكتب بجرة قلم واحد يأمر بفصله، ومثل هذا الأمر لا بد مطاع.
هكذا رويت القصة وهي لم تخل من بيان الذنب الذي قضى أن يفصل صاحبها من عمله، ولكن ذنبه أنه كفء تام الكفاءة، ذكي عظيم الذكاء.
فهلا يفهم الناس من هذا أن الموظف المصري المستقيم الجدير بأن يخلد في وظيفته هو الغبي العاجز؟ وهل سمع الناس أن الغباوة والعجز شرطان لا بد منهما في الوظائف الإدارية؟ وكيف ينتظر بعد هذه القصة أن يصلح أمر الإدارة في مصر إذا لم تتغير الحال غير الحال؟!
ومن بدائع اللورد كرومر قوله في تقريره سنة 1905 فيما تصلح به حال الموظفين الإنكليز: «وقد اقترح بعضهم حديثا أن يتعلم المرشحون أمورا تفيدهم في مناصبهم الرسمية في مصر والسودان، وشرع في إخراج هذا الاقتراح من القوة إلى الفعل على سبيل التجربة».
ولم يعلم أحد كنه هذه الأمور غير اللورد والمقترحين والمرشحين المتعلمين والأساتذة الذين يعلمونهم، ولكنا علمنا أنها أمور تفيدهم في مناصبهم بمصر والسودان، فأية ناحية كانت تنحاز إليها فائدة تلك الأمور؟ ناحية مصر أم ناحية إنكلترا؟ هذا شيء تنطق الحقائق الواقعة بجوابه.
علم المصريون كل ما تقدم، وعلموا مصيرهم معه فلم يطمئنوا إليه، بل كشفوا غطاءه بالنقد الصحيح، وجعلوا يتقون عاقبته بالعمل على قدر التحرك في القيود الثقيلة، نهضوا بالتعليم فكانت آثار الأمة فيه أضعاف آثار الحكومة، وجاهدوا في تهذيب الأخلاق وصيانة العادات وحفظ القومية، فرفعوا منار الأمة حتى سطع نوره فرآه العالم، واليوم ترفع الحجب عن الحقيقة المستورة، فيشهد الناس أن في مصر أمة راقية وأنها رقت بنفسها بين عقبات تعيي القادر الطليق، كذلك فعل البطل يدرك القوز في معارك الأبطال، ولو أنها لم تكن كذلك لما كانت سلالة آبائها الأولين.
الفصل الحادي عشر
سياسة التعليم
صفحة غير معروفة