ومع ذلك فقد استطاع خورشيد بعد لأي وعناء، وبعد أن دفع للجند قسما من مرتباتهم أن يقنعهم بالخروج لقتال المماليك؛ لفك الحصار عن القاهرة، وفتح المواصلات من الوجهين البحري والقبلي لدخول المؤن إليها وتخفيف وطأة المجاعة عنها، ووقعت مناوشات بسيطة بين الأرنئود والمماليك، حتى كمل الاستعداد للالتحام معهم في معركة كبيرة في سهول الجيزة في أول أبريل كان محمد علي يقود جنده الأرنئود أثناءها، ولكنها لم تكن في صالح الأرنئود، فاستؤنف القتال وانتصر محمد علي في هذه المرة، وأطلقت المدافع في القاهرة في 6 أبريل إعلانا لهذا الانتصار على المماليك الذين أرغموا على الانسحاب صوب الفيوم وعاد محمد علي وجيشه إلى القاهرة، وعقدت الاجتماعات لبحث الخطط والعمليات التالية، وحاول المماليك - من جهتهم - توحيد صفوفهم استعدادا للمعارك المقبلة.
فقد كان الانقسام بين البكوات لا يزال على أشده منذ حادث مطاردة الألفي، وحاول البرديسي إنهاء الخلاف مع الألفي بالرغم من الكراهية الشديدة التي فصلت دائما بينهما، ولكن الألفي كان لا يثق في نواياه، فبيت النية على استغلال النضال القائم بين خورشيد وبين البكوات بزعامة إبراهيم والبرديسي، حتى يقوم بدور مزدوج للتقرب من الفريقين والتفاهم مع كل منهما؛ لتهدئتهما من ناحية، وكسبا للوقت حتى إذا أنهكت قواهما الحروب استطاع هو أن يحتل القاهرة ويستأثر بالحكم لنفسه، متوقعا أن يأتيه التأييد الكامل من جانب الإنجليز من جهة، ومعتمدا على جهوده في كسب معاونة بعض الدول الأجنبية الأخرى من جهة ثانية.
وكان تنفيذا لهذه الخطة إذن أن أبدى الألفي رغبته في التفاهم مع البرديسي، بينما أرسل يعرض على حكومة القاهرة - كما كتب «ماثيو لسبس» في 9 أبريل - أن يقوم هو بمطاردة البكوات أعدائه؛ أي البرديسي وإبراهيم إذا وافق خورشيد على إعطائه مديرية جرجا، وقال «ماثيو لسبس» إنه من المنتظر أن يلقى هذا العرض قبولا من جانب خورشيد.
وكان خورشيد منذ تسلمه مهام منصبه في القاهرة، قد بذل قصارى جهده لفتح باب المفاوضة مع الألفي، وكان غرضه من ذلك - كما كتب «مسيت» في 13 مايو - «التأثير على الألفي حتى يبدأ عمليات عسكرية بسيطة ضد إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي في نظير أن ينال الألفي ثمنا لذلك معظم الصعيد»، وعلى ذلك فإنه ما إن وصل علي كاشف الشغب رسول الألفي إلى البساتين في 29 أبريل، وبعث إلى المشايخ ينبئهم بوصوله، وأطلع هؤلاء خورشيد على الخبر، حتى أذن الأخير بدخوله القاهرة، فذهب معه المشايخ والسيد عمر مكرم لمقابلة الباشا الذي «اختلى به حصة وقابله بالبشر ثم خلع عليه فروة سمور» واحتفى به حفاوة بالغة، وأهداه محمد علي حصانا، وغادر علي كاشف الشغب القاهرة في 3 مايو «بعد أن وافق خورشيد على إعطاء الألفي جرجا وعثمان بك حسن قنا وما فوق ذلك من البلاد.»
ولكنه لما كان غرض الألفي التمويه وكسب الوقت وتبييت النية - كما قدمنا - على الاستئثار بالحكم لنفسه، فإنه بدلا من تنفيذ اتفاقه - أو معاهدته - مع خورشيد، كتب إلى «مسيت» يطلب رأيه لعدم وثوقه في وعود الأتراك - كما قال - وبعث إليه بقوله: إن خورشيد قد كتب إليه خطابات كثيرة، وإن كثيرين من المماليك قد حضروا إلى معسكره من أسيوط لمناصرته، وإن عسكر القاهرة وأهلها يريدونه حاكما عليها مما يسهل عليه الاستيلاء على القاهرة؛ ولذلك فهو يريد من «مسيت» النصيحة؛ أي معرفة رأيه: هل يقبل عروض خورشيد أم يزحف على القاهرة، ويبدو أن الألفي كان يريد أن يعرف من «مسيت» مباشرة أو غير مباشرة ما إذا كان الإنجليز على وشك إرسال حملة إلى الإسكندرية ومصر أو أنهم على استعداد لإرسال هذه الحملة لنجدته؟
وقد فطن «مسيت» إلى غرض الألفي؛ لأنه بادر بالإجابة على رسالته في 11 مايو بصورة تنصل بها من الإدلاء برأي قاطع في الموضوع «خشية أن ينقل كلامه إلى الغير» - كما قال «مسيت» - فاكتفى بأن ذكر للألفي أنه يجهل ما لدى خورشيد من تعليمات «وأوصاه بألا يسترشد بالظروف فحسب، وألا يترك نفسه ينساق وراءها وينقاد لها».
وحتى 21 مايو لم يكن الألفي قد أعلن موقفه، فلا هو قام «بعمليات عسكرية بسيطة ضد إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي»، ولا هو اشترك مع البكوات في المعارك التي خاضوا غمارها مع جيش محمد علي.
فقد اشتبك محمد علي في مناوشات مع المماليك الذين اتخذوا مراكزهم في جهتي سقارة وإمبابة بعد هزيمتهم الأولى، وكان النصر حليفه فيها، ولكن المماليك ما لبثوا أن هزموه في معركة كبيرة في إمبابة في 26 أبريل، ولم يشأ محمد علي الاعتراف بهزيمته فيها، بل بعث يؤكد لخورشيد أن المماليك هم الذين حاقت بهم الهزيمة وأنهم اضطروا إلى الانسحاب تاركين في ميدان المعركة حوالي الأربعين من قتلاهم وأرسل إلى القاهرة سبعة رءوس علقت بباب زويلة، ثم انتهز محمد علي فرصة انشغال المماليك بنهب العتاد الذي خلفه جيشه وراءه وخرج عليهم فجأة من خنادقه المحصنة واضطرهم للتقهقر فانسحبوا إلى ناحية أهرام الجيزة، ولو أنهم ظلوا محتفظين بمراكزهم، وفقدوا في هذه المعارك حسين بك الوالي وإسماعيل بك صهر إبراهيم بك.
ولم تكن هذه المعارك حاسمة، فقد أعاد المماليك تنظيم صفوفهم، واستمروا يقطعون المواصلات مع الصعيد، ومنعوا عن القاهرة المؤن، حتى عظم البلاء والكرب بسبب اشتداد المجاعة بها، وبادر خورشيد باستدعاء الأرنئود من رشيد ودمياط، وقد زال عنهما الخطر الآن بسبب تركيز المماليك لكل جهودهم حول القاهرة لتضييق الحصار عليها، فاحتشد في القاهرة حوالي ثمانية آلاف من الجند الأرنئود.
وفي 5 مايو ترك البرديسي وإبراهيم ومماليكهم مركزهم في دهشور على الشاطئ الأيسر للنيل وعبروا النهر؛ قاصدين إلى القاهرة، بينما أبقوا حسين بك الزنطاوي مع جماعته بناحية دهشور لحماية سفنهم، وفي 9 مايو «وصل فريق منهم إلى جهة قبة باب النصر والعادلية من خلف الجبل ورمحوا خلف باب النصر من خارج وباب الفتوح ونواحي الشيخ قتمر والدمرداش، ونهبوا الوايلي وما جاوره وعبروا الدور وعروا النساء وأخذوا دسوتهم وغلالهم وزروعهم، وخرج أهل تلك القرى على وجوههم ومعهم بعض شوالي وقصاع ودخل الكثير منهم إلى مصر».
صفحة غير معروفة