واتخذ تدخل هؤلاء الوكلاء صورة بذل الوعود بنجدة دولتيهما للمماليك، أو التوسط لدى الباب العالي لإرجاع سلطانهم القديم على الحكومة إليهم، ونشط الوكلاء الإنجليز نشاطا «إيجابيا» في هذا السبيل، حتى إذا اقتضى الموقف الأوروبي إرسال حملة فريزر كانت جهودهم قد تكللت بالنجاح وقتيا، وقيد التزام الحكومة الفرنسية لخطة عدم التورط في أية ارتباطات مع البكوات نشاط وكلائها معهم حتى صار «سلبيا»، وترتب على تدخل الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في شئون البلاد أن صار من المتعذر قيام حكومة مستقرة في مصر، فكان هذا التدخل من أكبر العوامل التي زادت من حدة الفوضى السياسية المنتشرة بها.
على أن انتشار الفوضى السياسية لم يلبث أن هيأ الفرصة لظهور قوة جديدة في هذا الميدان المضطرب في شخص محمد علي، ظل الباشوات العثمانيون لا يأبهون لها حتى وجد «محمد خسرو» نفسه مطرودا من الولاية، ولقي آخر حتفه (طاهر باشا)، واضطر ثالث إلى المضي في طريقه إلى منصبه الأصلي بالحجاز (أحمد باشا)، وظل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون لا يفطنون لها حتى قتل وال ثان (علي باشا الجزائرلي) وطرد البكوات من القاهرة، وانبرى البرديسي لمطاردة الألفي وزاد انشقاق المماليك على أنفسهم، ثم نحي وال آخر عن منصبه (أحمد خورشيد باشا)، ونودي بمحمد علي واليا بالقاهرة.
حضر محمد علي إلى مصر مع الفرقة التي جمعت من «قولة» في الرومللي ومقدونيا مسقط رأسه، وجاءت مع القبطان حسين باشا في عام 1801 لطرد الفرنسيين، وترتب على عودة رئيس هذه الفرقة علي أغا ابن حاكم قولة أو «الجوربجي» إلى بلاده عقب الوصول إلى «أبي قير» أن تسلم محمد علي قيادة فرقته، واشترك بقواته متعاونا مع الإنجليز في العمليات العسكرية ضد الفرنسيين في حملة تلك السنة، واختار القبطان باشا لمهاجمة قلعة الرحمانية، ولكن الفرنسيين بقيادة الجنرال لاجرانج
Lagrange
أخلوها في ليل 10 مايو سنة 1801، قبل الهجوم عليها، فدخلها محمد علي دون قتال، وتوسط أحد أصدقاء محمد علي لدى القبطان باشا فألحقه هذا الأخير بخدمة محمد خسرو باشا أول الولاة أو الباشوات العثمانيين في مصر بعد خروج الفرنسيين.
ثم حدث بعد مكيدة القبطان باشا التي أهلك فيها عددا كبيرا من البكوات المماليك في أبي قير في أكتوبر سنة 1802، أن رقي «محمد علي» قائدا أو سر جيشه في أواخر سنة 1801، وهكذا لم ينقض عام واحد منذ وصوله إلى مصر حتى صار محمد علي مع زميله طاهر باشا القائدين الرئيسيين للجنود الأرنئود (الألبانيين)، عماد القوة العثمانية في مصر.
وشهد محمد علي انتشار الفوضى السياسية في مصر بعد خروج الفرنسيين منها، ولاحظ عن كثب ما يجري بها من حوادث، أقنعته بأن الولاة لن ينجحوا في إنشاء حكومة مستقرة طالما هم يظلون عاجزين عن إخضاع الجنود ورؤسائهم للطاعة والنظام، وما بقي البكوات المماليك ينازعونهم السلطة، ويقبل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون على مناصرة هؤلاء البكوات، سواء أكانت هذه المناصرة سلبية أم إيجابية، ودلت حوادث إخراج خسرو من الولاية ومقتل طاهر باشا ، ثم قتال خسرو مع البكوات المماليك في حرب كانت تارة كفته الراجحة فيها، وتارة كفة المماليك، ومحاولة طاهر باشا التفاهم معهم لعجزه عن الاعتماد على ما لديه من قوات متمردة في مقاومتهم؛ دلت هذه الحوادث على أن الجند الأرنئود إذا سلس قيادهم وحسن تحريكهم بحكمة وحذر صاروا قوة فعالة في تغيير الأوضاع القائمة لصالح رؤسائهم، وأن البكوات المماليك إذا أمكن التغيير بهم فتوهموا، أو توهم فريق منهم، أن في وسعهم الاطمئنان إلى معاونة الأرنئود ورؤسائهم له في الظفر بحكومة القاهرة؛ كان ذلك أدعى لإثارة المنافسة بينهم، وبذر بذور الشقاق في صفوفهم، وتأليب بعضهم على بعض، حتى يضعفوا جميعا وتذهب ريحهم، فيتسنى عندئذ هزيمة طوائفهم وأحزابهم متفرقين متبعثرين.
وشهد محمد علي نشاط القناصل والوكلاء الإنجليز والفرنسيين مع البكوات دائما ثم مع الباشوات كذلك، واستنجاد كلا الفريقين بالدول الأجنبية لتوسيطها لدى الباب العالي، إما لإرجاع الأولين إلى وضعهم السابق في البلاد، وإما لتقليد الآخرين منصب الولاية أو تثبيتهم في هذا المنصب، فأدرك أن استمالة هؤلاء الوكلاء تساعده على تحقيق مآربه إذا هو شاء التطلع لمنصب الباشوية.
ولاحظ محمد علي تذمر القاهريين من المغارم والمظالم التي فرضها عليهم الولاة، وسخطهم على الباشوات الذين لم يردعوا الأجناد عن السلب والنهب والاعتداء عليهم، فرأى أنه إذا هو أنشأ الصلات الطيبة مع المشايخ والعلماء ورؤساء هؤلاء القاهريين وزعمائهم الطبيعيين، فكسب ثقتهم؛ سهل عليه أن يقذف بهم في الميدان في الفرصة المناسبة لجعل نصره حاسما، سواء على البكوات المماليك أو على الولاة أنفسهم.
ومن الثابت أن محمد علي اشترك في جميع الحوادث والانقلابات منذ طرد خسرو باشا من الولاية في مايو سنة 1803، إلى وقت المناداة بولايته هو في القاهرة بعد ثلاثة أعوام فقط في مايو سنة 1805، وقد أتيحت له فرصة الظهور بسبب تلك الفوضى السياسية التي ذكرناها، والتي زاد من حدتها ما حدث من تضارب بين سياسة تركيا وسياستي إنجلترا وفرنسا، وقبل كل شيء آخر ما وقع من اصطدام بين المصالح - الفرنسية والإنجليزية - السياسية في مصر.
صفحة غير معروفة