ودلت حوادث «26-27 مايو»، ولا سيما التجاء أحمد باشا لتوسيط المشايخ لدى محمد علي، على ما صار يتمتع به محمد علي وقتئذ من نفوذ ظاهر، وكان من عوامل قوته - ولا شك - أن الأرنئود الذين تركهم مقتل طاهر باشا من غير رئيس لهم سرعان ما انضموا إلى محمد علي فانحصرت قيادتهم العليا في يده وكان ازدياد قوته العسكرية من الأسباب التي شجعته على تجربة حظه في هذه الأزمة، وقد اجتازها منتصرا، على أنه كان من أسباب هذا الانتصار كذلك، تلك المحالفة التي عقدها مع البكوات المماليك، والتي ارتكزت عليها في الحقيقة الحكومة المملوكية الجديدة، أو الثلاثية الحاكمة في القاهرة.
وقد علل «مسيت» السبب في عقد هذه المحالفة بقوله - في رسالته إلى هوبارت من القاهرة في 2 يونيو 1803 - «إن الأرنئود بعد مقتل طاهر باشا لم يعتبروا أنفسهم أقوياء لدرجة تمكنهم من مقاومة قوات خسرو باشا من الخارج، ودفع الهجمات الجزئية التي يقوم بها الإنكشارية في داخل المدينة ذاتها؛ ولذلك دعوا المماليك للانضمام إليهم والعمل متحدين معهم في قضية واحدة، وقبل هؤلاء ما اقترحه الألبانيون عليهم، وعلى ذلك، فقد عادوا إلى القاهرة مرة ثانية بعد غيبتهم عنها مدة سنتين تقريبا.»
ومع ذلك فقد توقع «مسيت» أن عقد المحالفة بين محمد علي والبكوات سوف ينفرط قريبا بالرغم من هذا الاتحاد الظاهر؛ لأن كلا من الفريقين يشك في الآخر، ولأن المماليك يحتلون مراكز كثيرة خارج القاهرة، بينما لا يزال الأرنئود يرفضون تسليم القلعة لهم، على أنه لما كان البكوات يريدون ضمانا لاستقرار الأمور في أيديهم، وبرهانا على حسن نوايا محمد علي، وكان لا يزال موقف الباب العالي من الحوادث الأخيرة مجهولا، وليس هناك ما يدل على أن الباب العالي سوف يبقي الأرنئود بمصر بعد هذين الانقلابين - طرد خسرو ومقتل طاهر باشا - وقد يطلب إبعادهم من البلاد كلية، ولا يزال محمد علي عاجزا عن الانفراد بالسلطة؛ فقد وجد محمد علي من الحكمة وأصالة الرأي توثيق عرا التحالف بينه وبين البكوات لمواجهة الأخطار المتوقعة من ناحية، ولمناجزة خسرو باشا - الذي لا يزال مبعث الخطر المباشر على حكومة التحالف الجديدة - من ناحية أخرى.
وعلى ذلك فقد وافق محمد علي على وضع القلعة في أيدي البكوات فسلمت لهم في 6 يونيو، كما وافق على أن يعينوا من يشاءون في وظائف الضبط والربط الرئيسية في القاهرة، واستطاعت الحكومة الجديدة أن تحزم أمرها لمواجهة الأخطار التي تعرضت لها والتي كان مبعثها، أولا: سعي خسرو لاسترجاع منصبه في القاهرة، وثانيا: تعيين علي باشا الجزائرلي لولاية مصر، وثالثا: بقاء الإسكندرية خارج نطاق حكومتهم، ورابعا: عودة الألفي الكبير من سفارته في لندن، وخامسا: وأخيرا، معالجة شئون الإدارة الداخلية وأهمها تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند.
أولا: مطاردة خسرو
أما خسرو فكان بعد خروجه من القاهرة قد استقر بالمنصورة، وجمع حوله ما يقرب من الثلاثة آلاف فارس، وكان يرجو - إذا استطاع الاحتفاظ بالمنصورة - أن يخضع لسلطانه الوجه البحري تدريجيا، وكان كل ما يخشاه أن يجد البكوات المماليك فيما حدث فرصة لتجديد مسعاهم لدى الباب العالي، ويظفروا منه بموافقته على إرجاع حقوقهم وسلطانهم السابق في حكومة القاهرة إليهم.
وقد نصحه «هايز» وقتئذ بأن يبذل قصارى جهده للاتصال بالبكوات والتفاهم معهم بأقصى سرعة حتى يعاونوه على استرجاع باشويته، ولكن ما إن وصل الأرنئود الذين كانوا قد خرجوا لمطاردته بقيادة حسن بك أخي طاهر باشا إلى المنصورة حتى انتقل منها خسرو إلى دمياط، وانفض من حوله جماعة من العسكر وانضموا إلى جند حسن بك، وفي دمياط جاءت خسرو رسائل أحمد باشا والسيد أحمد المحروقي وغيرها تنبئه بمقتل طاهر باشا وتستعجله للحضور إلى القاهرة، فخيل إليه أن الفرصة قد سنحت لاسترداد ولايته، فخرج من دمياط قاصدا إلى القاهرة، ولم تصادفه أية عقبات حتى بلغ فارسكور، وهناك وجد حسن بك بجنده مرابطا بها فهزمه خسرو ودخل فارسكور ونهبها جنده، غير أنه سرعان ما عرف وهو بها أن أحمد باشا قد صار طرده كذلك من القاهرة وأن البكوات المماليك قد تسلموا قلعتها، فقرر العودة إلى دمياط، وعندئذ صار حسن بك يلاحقه في مناوشات بسيطة مع مؤخرة جيشه، ثم التحم الجيشان في معركة كبيرة تحت أسوار دمياط، انهزم فيها خسرو ولكنه استطاع الدخول إلى المدينة فتحصن بها ووقف حسن بك على حصارها، وفي يوم 2 يوليو وصلت النجدات إلى حسن بك بقيادة البرديسي نفسه ومحمد علي، فسقطت دمياط وتحصن خسرو بقلعة العزبة «عزبة البرج»، ولكنه انهزم في اليوم التالي، وأمر البرديسي بإرساله إلى القاهرة؛ حيث يقوم بشئون الحكم بها أثناء غيابهما إبراهيم بك، فاقتيد خسرو أسيرا إليها في 8 يوليو.
وقرر البرديسي ومحمد علي أن تكون خطوتهما التالية إخضاع رشيد والإسكندرية، وهما الموقعان الباقيان الآن في يد الأتراك في مصر بأسرها، واتفقا على تلاقي جيشيهما عند الرحمانية، وسبق إليها البرديسي على رأس فرسانه، بينما تبعه محمد علي مع المشاة والمدفعية.
على أنه في نفس اليوم الذي اقتيد فيه خسرو أسيرا من دمياط إلى القاهرة، كان قد نزل في الإسكندرية علي الجزائرلي، معينا من قبل الباب العالي لباشوية مصر، فواجهت الحكومة الثلاثية خطرا جديدا على كيانها، اقتضى منها توفير كل جهودها لتلافيه، كما كان من أهم الأسباب التي زادت في توثيق أواصر المحالفة بين البكوات وبين محمد علي.
ثانيا: باشوية علي الجزائرلي
صفحة غير معروفة