وعلى ذلك فقد كتب «تابرنا» في رسالته السالفة الذكر للجنرال ستيوارت، أن البكوات لدى وصوله وافقوا على كل ما نصحهم به، ثم استطرد يقول: «ولكن مركزهم أو موقفهم جعلهم يزيدون في طلباتهم.»
وقد تحدث تابرنا في رسالة بعث بها إلى السير ألكسندر بول في هذا التاريخ عن الموقف في مصر، وعن الأثر الذي أحدثه اتصاله بالبكوات، فقال: إن المماليك الآن سادة مصر ما عدا الإسكندرية التي لعلي باشا الجزائرلي بها سلطان مزعزع، وأما عثمان البرديسي فقد هاجم دمياط ونهبها، وخرب الحرب والمرض نصف قرى الصعيد، بينما سببت الإتاوات التي جمعها العثمانلي انتشار البؤس والشقاء في الوجه البحري، والأرنئود في ثورة ضد الأتراك بسبب مرتباتهم المتأخرة عن ستة شهور، وقد تعهد المماليك بدفعها، واضطر أخيرا كل بك وكل كاشف منهم إلى بيع مجوهرات وحلي زوجاته لدفع هذه المرتبات، وهم الآن يشعرون بارتباك عظيم بسبب مطالب الشهر المقبل، بينما يستحيل على القاهرة أن تقدم إتاوات أخرى تؤخذ منها لدفع مرتبات الأرنئود ولذلك فالأرنئود يهددون بالثورة.
ولما كانت كل التحصينات في أيدي المماليك، فالمنتظر - من غير شك - أن ينهزم الأرنئود في كل محاولة يقومون بها ضد المماليك، ولكن القاهرة سوف تصبح عندئذ تحت رحمة المنتصرين، وسوف يكون مصيرها التخريب التام، ويجد الميجور «مسيت» نفسه في مركز دقيق ومحرج وهو في حيرته لا يعرف ماذا يفعل، ومن جهة أخرى يخشى المماليك من أن يتخلى عنهم أنصارهم «الإنجليز». «وأما الفرنسيون الذين لا يفوتهم شيء فقد أرسلوا إلى هذه البلاد «ماثيو لسبس» وهو رجل ماهر عرض باسم بونابرت على البكوات إرسال خمسة آلاف رجل لمساعدتهم، وكاد البكوات في يأسهم أن ينخدعوا بذلك، ولكن عثمان البرديسي وهو أقدرهم بلا جدال، لم يلبث أن تساءل: كيف يستطيع بونابرت إرسال خمسة آلاف رجل ومراكب الإنجليز تملأ البحر، وقد أجاب «لسبس» من غير أن يوضح له كيف يمكن ذلك، إنه لا يستحيل شيء على بونابرت، وإن الآلهة والملائكة والقديسين راضون عنه دائما، وإن البكوات إذا أرادوا مجيء هؤلاء الخمسة آلاف فإنهم سوف يحضرون في أقل من شهر واحد، وكل ما يخشاه «تابرنا» أن يلقي البكوات بأنفسهم في أحضان العدو بسبب يأسهم، ويرجو أن لا يحيدوا عن اتباع النصائح التي زودهم بها هو والميجور مسيت.»
ثم تحدث «تابرنا» عن الأثر الذي تركه في نفوس البكوات من ناحيته شخصيا، فقال: إنهم جميعا يحترمونه والتفاهم تام بينه وبينهم، «ويعتقد يقينا أن نفوذه معهم سوف يمكنه من تحقيق بعض الفائدة، ولما كان «تابرنا» قد أقنعهم بأن «الإنجليز» لن يتخلوا عنهم فقد صاروا يعاملونه والميجور مسيت معاملة صداقة وود عظيمين»، وقد أكد «لسبس» نفسه وجود هذا الود بين البكوات والوكلاء الإنجليز في رسالته إلى دروفتي (3 نوفمبر سنة 1803).
ولكن «تابرنا» ارتكب خطأ كبيرا عندما تحدث في مشروع ألكسندر بول مع البكوات المماليك على أنه ترتيب أو اتفاق وافقت عليه الحكومة الإنجليزية نهائيا، فقد أوفد البكوات إلى مالطة - كما ذكرنا - سليم أفندي نائبا عنهم للمفاوضة مع السير ألكسندر، وكي يطلب منه الإمدادات التي تمكن البكوات من الاستيلاء على الإسكندرية، ووصل سليم أفندي إلى مالطة في يناير سنة 1804 حتى يعقد مع حاكمها الاتفاق أو المعاهدة المزعومة، واضطر السير ألكسندر إلى تبصير سليم أفندي بالحقيقة، وأنه لا يستطيع عقد أي اتفاق مع البكوات، وعندما وصل الكابتن هالويل يحمل على ظهر سفينته «أرجو
Argo » الألفي بك في طريقه إلى مصر في آخر يناير وجد سليم أفندي بها، ووقف منه «هالويل» على معلومات متعلقة بسفارة الألفي في لندن، كان من أثرها أن تغير نظر «هالويل» إلى الألفي، فقد كتب؛ أي هالويل، من مالطة في 3 فبراير يقول: إن عثمان البرديسي وإبراهيم بك أرسلا سليم أفندي بخطاب إلى «ملك إنجلترا» يطلب مساعدة الحكومة الإنجليزية وإمداده بالمال والرجال، ويرجو تدخل الإنجليز لمنع الألفي من العودة إلى مصر، مما آثار دهشة «هالويل» العظيمة؛ لأنه فهم دائما أن الألفي هو الشخص الذي يحتل المكانة الأولى في مصر، وأن البكوات الآخرين أنابوه عنهم وأوفدوه إلى إنجلترا للمفاوضة باسمهم مع الحكومة ولكن تبين له من حديثه مع سليم أفندي أن المماليك جميعهم يكرهون الألفي، وأنهم ذكروا للجنرال ستيوارت صفاته الخلقية المزعجة، وألحفوا عليه في الرجاء أن يأخذه معه إلى أي مكان خارج البلاد وإلا لتعذر أن تعود السكينة والهدوء إلى مصر بتاتا.
وكان خوف الألفي من وصول القبطان باشا مع خمسين أو ستين ألف جندي جعله يفكر في ترك مصر، ولكن البكوات الآخرين أوضحوا له عدم لياقة ذلك، بينما تدعو الضرورة الملحة لاتحادهم جميعا ووقوفهم ضد أية قوة قد ترسلها القسطنطينية، ولكن عندما أعلن لهم الألفي أنه إذا منع من النزول إلى البحر فسوف ينسحب إلى القسطنطينية مع مماليكه، ولما خشي البكوات أن يترتب على فعله ذلك أذى كبير فقد وافقوا على ذهابه إلى إنجلترا على أمل أن لا يرجع ثانية، ولكنهم لم يخولوه مطلقا أية سلطات كسفير لهم ويتحدونه أن يظهر أي كتابة ممهورة بإمضاء أي «بك» من البكوات لإثبات ذلك، ثم ما لبثوا أن اعترفوا بأنهم أعطوه ورقا على بياض يحمل إمضاءاتهم، ويجهلون كيف تصرف بهذه الأوراق كما يجهلون الكتابة التي ملأها بها، ويشتبهون في أنه منحاز إلى جانب فرنسا ...
وأما سليم أفندي فقد آثر الابتعاد عن الألفي أثناء وجوده بمالطة، ولم يذهب لزيارته على ظهر السفينة «أرجو» إلا بعد إلحاح السير ألكسندر عليه، ووقف الألفي منه على التغييرات الكبيرة التي حدثت في مصر في غير صالحه، ولما كان مماليكه قد أبلغوا سليم أفندي أن الحكومة الإنجليزية أكدت للألفي أنه إذا لقي معارضة من عثمان البرديسي فسوف تمده فورا بخمسة عشر ألف رجل لإرغام البرديسي على الطاعة؛ فقد نفى الكابتن هالويل لسليم أفندي ذلك نفيا قاطعا وأكد له أن الحكومة الإنجليزية صديقة لجميع المماليك، ولا يمكن - بحال - أن تتدخل في منازعاتهم الداخلية، ولكن إذا هاجم الفرنسيون حزبا من حزبي الألفي والبرديسي فإن الإنجليز يمدون الحزب المتعرض لهجومهم بالنجدة.
وقد حاول الألفي بعد مقابلته مع سليم أفندي الحصول على ستة مدافع إما بالشراء وإما كهدية له، واعتقد هالويل أنه ربما كان يبغي عند عودته إلى مصر الانسحاب بها إلى الصعيد أو الحبشة والانتظار حتى تأتيه النجدات من فرنسا، وقد غادر الألفي مالطة على ظهر الأرجو في 4 فبراير، وأما سليم أفندي، فقد بقي بها على أمل أن يعود إلى مصر مع شارلس لوك
Lock
صفحة غير معروفة