وفي 3 يناير سنة 1803 عقد اجتماع آخر بين الريس أفندي واللورد «إلجين»، وكان في هذا الاجتماع أن قال الريس أفندي: إن رأي الباب العالي الخاص بعدم السماح للمماليك بالبقاء في مصر لا يزال كما هو، ولكنه لما كان الضباط الإنجليز قد ارتبطوا مع البكوات بارتباطات معينة، وتريد الحكومة الإنجليزية المحافظة على هذه التعهدات، فقد قرر الباب العالي إعطاء مديرية أسوان للبكوات لإقامتهم بها وزيادة المعاشات المعروضة عليهم إلى الضعف على شريطة التزامهم الهدوء وعدم التدخل في شئون الحكومة أو جمع الضرائب التي يقوم بتحصيلها ضباط الباب العالي، وقال الريس أفندي إن هذه التسوية مطابقة لرغبة البكوات أنفسهم، وقد أفصحت عنها عريضة تقدموا بها عن طريق الجنرال ستيوارت إلى الصدر الأعظم، وأمام هذا التأكيد لم يسع إلجين سوى الموافقة، ولو أنه قال: إنه يجهل تماما أن البكوات قد قدموا مثل هذه المقترحات، وحصل من الباب العالي في 5 يناير على أن يترك للبكوات التمتع بإيرادات «مديرية أسوان» نظير دفع خراج خفضت قيمته بعض الشيء، وذلك بدلا من المعاشات التي أراد الباب العالي إعطاءها لهم، وعلى ذلك فإنه عندما وصل «برون
Brune » السفير الفرنسي إلى القسطنطينية في 6 يناير كان قد تم الاتفاق، ووجد «برون» نفسه أمام الأمر الواقع.
وفي 15 يناير بعث إلجين إلى هوكسبري برسالة طويلة يذكر فيها المفاوضات التي بدأت في 19 ديسمبر من العام السابق وانتهت بالوصول إلى هذا الاتفاق، وتحدث عن مسألة التفاهم السري بين إبراهيم بك وبونابرت بإسهاب، وقال: إن «بلانتاير
Blantyre » «الذي وصل القسطنطينية في 24 ديسمبر» اعترف بأن الفرنسيين حقيقة يحاولون التدخل في شئون مصر، الأمر الذي جعل «إلجين» بدوره يصمم على إنهاء المسألة قبل وصول سباستياني أو السفير الفرنسي إلى القسطنطينية، وبخاصة عندما أكد الوزراء العثمانيون أنهم تسلموا عن طريق الجنرال ستيوارت عريضة من البكوات يرجون فيها الباب العالي قبول هذا الحل ذاته؛ أي إعطاءهم مديرية أسوان لإقامتهم بها وتخصيص معاشات لهم، ولو أن إلجين وبلانتاير قد أكدا للوزراء العثمانيين جهلهما بأمر هذه العريضة، وكان بناء على المعلومات التي أدلى بها «بلانتاير» عن فقر مديرية أسوان أن أمكن التوسط لدى الباب العالي لتخفيض قيمة الخراج الذي يدفعه البكوات، وقد علل إلجين في رسالته هذه السبب الذي دعا الباب العالي إلى رضائه بإقامة المماليك في إقليم من أقاليم مصر بالشروط الآنفة، بأن الوزراء العثمانيين أدركوا أهمية وقف النزاع القائم بين الباب العالي والبكوات، ولو أنهم كانوا لا يريدون الاعتراف بأن خضوع البكوات لسلطان الباب العالي أمر ضروري؛ لأنه عندما اجتمع إلجين بهم في 19 ديسمبر، وعندما وعده الريس أفندي بتخصيص مديرية أسوان لإقامة المماليك بالشروط التي سبق ذكرها لم يكن قد بلغ الباب العالي شيء عن الالتحامات التي وقعت في مصر بين البكوات والأتراك وانهزم فيها الأخيرون، زد على ذلك أن الوزراء العثمانيين - على نحو ما أبلغ المبعوث الروسي «تامارا
Tamara » اللورد إلجين - كانوا يريدون مبارحة الجيش البريطاني للبلاد بكل سرعة حتى يشرعوا فورا في مناجزة المماليك، ولا يتردد الأتراك في تحمل أية تضحيات في سبيل إنقاص عدد المماليك تدريجيا، ثم القضاء عليهم وإفنائهم نهائيا، أضف إلى هذا كله - على نحو ما اعتقد إلجين وأكده له الباب العالي - أن الأتراك إنما أرادوا من هذه التسوية إرضاء إنجلترا، وأن لا دخل لفرنسا في ذلك.
على أنه من الثابت من جهة أخرى، في تعليل هذا الاتفاق الذي لم يعترض عليه إلجين وقبله، أن إلجين نفسه كان يريد حدوثه قبل وصول السفير الفرنسي حتى يتجنب المخاطرة والفشل، ففضل عدم التريث أو سؤال «ستيوارت» في موضوع تلك العريضة التي أكد الوزراء العثمانيون أنها وصلتهم عن طريق هذا الأخير، تتضمن مطالبة البكوات أنفسهم بهذا الحل أو الترتيب.
ولم يتمسك «إلجين» بضرورة إعطاء البكوات كل إقليم الصعيد، لا سيما وأن ستيوارت نفسه قال في تعليماته لمبعوثه إلى القسطنطينية «بلانتاير»: إن البكوات سوف يقبلون أي حل يعرض عليهم ما دام لا يطلب نفيهم وإبعادهم من البلاد، وقد عارض الباب العالي في إعطاء الصعيد للبكوات بدعوى الحاجة الملحة إلى الاحتفاظ بالمواصلات مع ميناء القصير على البحر الأحمر، والذي يتسنى بواسطته الاحتفاظ بالمواصلات مع أقاليم الصعيد التي تنتج القمح، واعتقد إلجين أن الاتفاق كان لا يخلو من مزايا هامة، منها أن البكوات لم يجبروا على تصفية أملاكهم في القاهرة وفي الوجه البحري، زد على ذلك أن الباب العالي لم يصر على إدخال تعديل في نظام المماليك ووضعهم يتم نفاذه بضمان الإنجليز أو جيشهم في مصر، وعظم رجاء إلجين في أن المماليك سوف يقبلون هذا الاتفاق الذي لم يشترط نفيهم من مصر.
غير أنه كان من الواضح أن تنازل الباب العالي عن موقفه كان تنازلا ظاهريا أو وهميا، لم يرغمه عليه سوى تفوق المماليك وانتصارهم على جيشه في مصر، في وقت ينقصه فيه وجود القوات العثمانية الكافية التي إذا قوى ساعدها سوف تمكنه في الظروف المواتية من مطاردة البكوات والعمل من أجل القضاء عليهم، وعلاوة على ذلك فإن مديرية أسوان كانت لفقرها أملاكا لا يمكن أن تكفي لبقاء المماليك وعيشهم، فلم يكن هذا الاتفاق السريع في نظر الباب العالي سوى هدنة تعطيه فسحة من الوقت في نضاله المميت مع المماليك، وإرضاء شعور العزة والكرامة لدى البريطانيين الذين أعطوا كلمتهم للبكوات، وارتبطوا معهم، أضف إلى هذا أن الباب العالي كان يريد التخلص من جيش الاحتلال البريطاني بكل سرعة وتجنب المسألة المربكة التي سوف يثيرها قطعا السفير الفرنسي عند حضوره إذا وجد أن الباب لم يغلق بعد في وجه التدخل الفرنسي في صالح البكوات.
أما الباب العالي فقد أبلغ الحكومة الإنجليزية هذا الاتفاق في يناير وأرسل الأوامر اللازمة، إلى صدقي أفندي مبعوثه في لندن لإطلاعه على قرار حكومته، كما كتب «الصدر الأعظم» في التاريخ نفسه إلى الجنرال ستيوارت بما حدث، وأرسل تعليماته إلى خسرو باشا، وطلب إلى «ستيوارت» إخبار المماليك بالاتفاق ثم بانتهاء تدخل الإنجليز لحمايتهم، وقال إن «بلانتاير» سوف يعطيه؛ أي ستيوارت كل التفصيلات المتعلقة بهذا الاتفاق.
ووصل «بلانتاير» الإسكندرية في 3 مارس سنة 1803، وفي اليوم نفسه قدم تقريره إلى «ستيوارت» وأوضح فيه اعتراضه على اختيار مديرية أسوان لإقامة المماليك، كما قال إن الأتراك إنما أرادوا من الانتهاء من مسألة البكوات بهذه السرعة منع تدخل السفير الفرنسي الذي كان منتظرا وصوله قريبا؛ لأنهم توقعوا هذا التدخل بسبب ما ظهر لهم من مسلك «سباستياني» في مصر، وبدليل أن الجنرال «برون» كان أول سؤال له عند وصوله إلى القسطنطينية «هل انتهت مسألة المماليك أم لم تنته بعد؟» •••
صفحة غير معروفة