وكان موضوع المذكرة التي قدمها مورييه حينذاك هو بحث الحلول التي يتسنى بفضلها لبريطانيا أن تمنع الفرنسيين من العودة إلى مصر، فاقترح مورييه حلولا ثلاثة: أولها: إعطاء مصر للأتراك مع بقاء حامية بريطانية فيها لقاء أن ينال الإنجليز مزايا تجارية، وفي هذه الحالة يجب القضاء على المماليك. وثانيها: احتلال البريطانيين لمصر كما فعل الفرنسيون، ولو أن هذا الاحتلال سوف يتخذ حينئذ مظهر الفتح ويثير أهل البلاد ضده، ويرى «مورييه» من الحكمة والسياسة عند قبول هذا الحل، أن يعاد بعض بكوات المماليك إلى الحكم، مع تعيين قومسيير - أو مندوب - إنجليزي إلى جنب كل واحد منهم. وثالثها: امتلاك البريطانيين لمصر، وقد علل «مورييه» هذا الحل بأنه خير من تخريب البلاد بالفيضان، الأمر الذي لا ندحة عنه في رأيه على ما يظهر إذا تعذر الحلان الأولان، فضلا عن أنه يقرب البريطانيين من أملاكهم في الهند.
والنقطة البارزة في هذه الحلول التي اقترحها «مورييه» القضاء على المماليك إذا أعيدت مصر إلى تركيا، واستبقاؤهم إذا خضعت البلاد لاحتلال البريطانيين أو امتلاك البريطانيين لها، ثم بقاء قوات بريطانية في مصر إذا استرجعها الأتراك على اعتبار أنه من المتعذر الدفاع عن البلاد بدون معاونة الجيش البريطاني، كما أخذت هذه المقترحات في الحل الثاني وفي الحل الثالث ضمنا مسألة الاستعانة بالمماليك في الحكم والدفاع بعين الاعتبار، وترتكز جميع هذه الحلول على مبدأ جوهري هو عدم استطاعة الأتراك وحدهم الاحتفاظ بمصر أو الدفاع عنها ضد الغزو الفرنسي إذا تجدد.
وكانت مقترحات «مورييه» فيما انطوت عليه من معنى الاعتماد على الجيش البريطاني في الدفاع، ثم على المماليك سواء في المساهمة في الحكم أو في الدفاع كذلك عن البلاد متمشية مع مجرى السياسة البريطانية ذاتها، ومتفقة في مرماها مع الغايات التي استرشدت بها الوزارة الإنجليزية وقتئذ.
فقد بحثت الوزارة الإنجليزية موضوع أفضل الحكومات التي يجب إنشاؤها في مصر؛ لإسداء الرأي للباب العالي - على نحو ما طلب - بعد الوصول إلى قرار بشأنها، واسترشدت من أول الأمر بقاعدة الوساطة على نحو ما أوضحها اللورد هوكسبري إلى إلجين في 28 يوليو بين الجماعات أو الأحزاب المختلفة، وقد أسفر بحث الوزارة عن «مشروع لحكومة مصر بعد خروج الحملة الفرنسية» يتألف من تسع مواد استهلته بقولها: إنه يؤخذ من كتابات الرحالة الذين زاروا مصر أن الحكومة التي قامت فيها قبل امتلاك الفرنسيين لها كانت تتميز بثلاث ميزات ظاهرة: أولها: أن سيادة الباب العالي كانت اسمية. وثانيها: أن سلطة المماليك كانت مطلقة. وثالثها: أن سواد الشعب كان يعيش في بؤس وتعاسة، على أن هذا النظام السيئ كان لا محالة من تغيره تغيرا ملحوظا لو أن الفرنسيين استمروا في امتلاك البلاد بضع سنوات أخرى؛ لأنه كان من المنتظر عندئذ أن تملي عليهم سياستهم ومصلحتهم خطة تشجيع وحماية القبط واليونان والعرب على العمل والاستفادة من الزراعة والتجارة، ثم تخضع قوة المماليك لأغراض الأمن والسلامة والدفاع الهامة.
وعرض المشروع لمسألة احتلال البريطانيين للبلاد، فقال إنه إذا أتيح «للإنجليز» أن يخلفوا الفرنسيين في ممارسة حقوق السيادة في مصر، فمن المحتمل الوصول إلى هذه النتائج؛ لأن حكومتهم التي ينشئونها في مصر عندئذ سوف تكون مشبعة بروح لا يمكن أن تسمح بتقوية رعاياها إلى الدرجة التي يستطيعون بها مقاومة سلطان الدولة - كما فعل المماليك في بعض الشئون المالية - ولا يمكن أن ترضى بتعرض الطبقات الدنيا والفقيرة والعاملة للنهب والسلب والظلم كما كان الحال في ذلك الوقت، وما دام الجيش البريطاني يظل باقيا في مصر فليس من المتوقع أن يحدث ذلك، وقد أثبتت التجارب أنه يخشى إذا استعاد العثمانيون سلطانهم وتركوا وشأنهم أن يخيم الخمول على البلاد، وأن تنتشر بها المفاسد والمساوئ، وأن يستأنف المماليك استغلالهم للبلاد جريا على عادتهم القديمة نتيجة لذلك، فيتعرض السكان لأنواع المظالم والمغارم التي يفرضها عليهم الفريقان: «العثمانيون والمماليك» على السواء، ويعودون إلى حالة البؤس والشقاء التي كانوا عليها، ولا يحول دون وقوع هذا كله سوى نفوذ «الحكومة الإنجليزية» وحده، وإذا لم يستخدم هذا النفوذ الآن لمعاونة وزراء الباب العالي في إدخال نظام جديد للحكم، وإذا لم يكن هذا النظام مؤسسا على مبادئ تؤمن للشعب الامتيازات والحقوق التي يجب أن ينالها الآن، ويمهد - بوسائل إجبارية - إقامة قوة عسكرية تحت نظام دقيق صارم؛ فإنه من المحتمل كثيرا أن يلقى الفرنسيون ما يشجعهم على القيام بمحاولة أخرى لغزو مصر، وأن ينجحوا في آخر الأمر في إخضاع هذه البلاد لسلطانهم.
ثم استطرد المشروع يقول: «إنه لا يبدو من المتعذر موافقة الوزراء العثمانيين - بسبب ما ظهر من ميول هؤلاء لسؤالهم رأي الحكومة الإنجليزية - على المقترحات التي تقدمها الحكومة الإنجليزية إليهم لتأييد سلطانهم في مصر؛ ولذلك رأت الوزارة الإنجليزية عرض النقاط التسع الآتية كشرائط لقبولها الاشتراك في وضع ترتيب الحكومة المنتظر تأسيسها في مصر.»
أما أول هذه الشروط فهو تحديد حقوق وامتيازات المماليك ومدى ولايتهم القضائية على أراضيهم، وتحديد طبيعة ومدى عسكريتهم، وجعل امتلاكهم لأراضيهم مشروطا بقيامهم بخدماتهم العسكرية. وثانيها: وضع قواعد ثابتة لإيرادات الدولة، سواء من البيوع أو الضرائب على التجارة، أو من أي مورد آخر، فتنظم هذه القواعد فئاتها، وتوقع عقوبة رادعة على موظفي الحكومة الذين يحصلون غصبا مبالغ غير التي تحددها هذه الفئات الرسمية. وثالثها: أن يخصص جزء معين من إيرادات مصر العامة لسد نفقات القوات العسكرية النظامية التي تتشكل تحت إشراف وهيمنة ضباط بريطانيين. ورابعها: أن يستمر استخدام القوات العثمانية النظامية الموجودة الآن في مصر، وتؤلف جزءا من القوات العسكرية المنصوص عليها في الشرط السابق. وخامسها: أن يجرى جمع قوات أخرى من ألبانيا وغيرها من أملاك السلطان العثماني الأوروبية، ومن مصر كذلك لهذه الخدمة، وأن يستمر جمع هذه القوات حتى يكتمل تأليف القوات العسكرية النظامية المنصوص عليها. وسادسها: أن يتسلم القيادة العليا لهذا الجيش - إذا كان ممكنا - ضابط بريطاني، وأن لا يدفع شيء من الأموال المخصصة لهذا الجيش إلا بأمر منه. وسابعها: أن تخول التعليمات هذا الضابط «البريطاني» الاحتجاج لدى ممثلي الباب العالي في مصر في كل الحالات التي تتخذ فيها إجراءات خارقة للمبادئ التي يجب وضعها الآن فيما يتعلق بالامتيازات التي للمماليك، وحقوق الشعب المعترف بها، أو تحصيل الأموال المخصصة للشئون العسكرية ووجوه إنفاقها عليها. وثامنها: أن تجرى الترقيات في الجيش النظامي بناء على توصية الضابط البريطاني، وأن يرجع إليه في كل تفصيلات الشئون العسكرية. وتاسعها: وضع حامية من الجنود الذين في خدمة بريطانيا العظمى في حصن - أو قلعة - الإسكندرية طوال الحرب الحاضرة، يقوم الباب العالي بسداد نفقاتها، على أن يؤخذ ذلك من الأموال المخصصة للقوات العسكرية النظامية التي سبق ذكرها.
وقال المشروع إن فتح مصر قد صار الموضوع المحبب إلى الحكومة الفرنسية، ويلحق تحقيقه أبلغ الأذى بمصالح الإمبراطورية البريطانية الجوهرية؛ ولذلك فمن الحكمة أن تفيد الحكومة الإنجليزية من هذه الفرصة المواتية لها لتضع في يد الباب العالي الوسائل التي تمكنه من إحباط أغراض فرنسا دون حاجة للالتجاء إلى جيش بريطاني؛ لأنه مهما كان ضغط الظروف التي سوغت المجهود العظيم الذي قامت به بريطانيا في الحالة الراهنة؛ لطرد الفرنسيين من مصر؛ فليس من المتوقع في المستقبل أن تبذل بريطانيا هذا المجهود مرة أخرى.
واختتم الوزراء الإنجليز مشروعهم بإظهار تفاؤلهم، حسبما بلغهم من اللورد إلجين، بأن الباب العالي سوف يقبل هذا البرنامج الذي يحقق الأغراض المباشرة المنشودة، والذي يمكن من تفوق واستعلاء النفوذ الإنجليزي في القسطنطينية، الأمر الذي يعود بالنفع كذلك على التجارة البريطانية في الليفانت، فاعتد الوزراء الإنجليز بمشروعهم لما كانوا ينتظرونه من مزايا عند تحقيقه، وضرورته في تحسين أحوال أناس يعيشون في بؤس وتعاسة لا نظير لهما على وجه الأرض، وتعطيل أعظم مشروع قامت به فرنسا حتى هذا الوقت، وفتح أسواق مصر لتجارة بريطانيا.
ولكن الوزراء الإنجليز كانوا واهمين في كل ما ذهبوا إليه؛ لأن مشروعهم لو نفذ لوضع مصر بأسرها تحت نفوذهم، وأخضعها لسيطرتهم العسكرية والاقتصادية، وذلك كله دون أن يتحمل الإنجليز شيئا من النفقات التي يستلزمها تنفيذ هذا الترتيب الذي ابتكروه، ولا تجني تركيا نفعا منه، بل يعود عليها تنفيذه - من وجهة نظرها - بكل الضرر؛ لأن المشروع - في أبسط صورة - يحرمها حتى من ذلك النفوذ الضئيل الذي ضمنه لها وضع البلاد قبل الغزو الفرنسي، وهو وضع لم ترض به تركيا وأرادت على نحو ما سبق القول أن تستبدل به وضعا آخر يخضع مصر لسيطرتها التامة كمقاطعة عادية من مقاطعات الإمبراطورية العثمانية.
صفحة غير معروفة