359

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

فكان هذا الاختلاف والانقسام منشأ ما حل بهم من نكبات جديدة.

ذلك أن الباشا - وقد كاد للمماليك وأجهز على صفوتهم في مذبحة القلعة - ما كان ليطمئن باله، إلا إذا أعمل السيف في البقية الباقية منهم كذلك، واستأصل شأفتهم تماما.

ولذلك، فقد بادر في ثاني يوم الواقعة - أي في 2 مارس 1811 - بتقليد مصطفى بك ابن أخته قيادة الدلاتية؛ لإنفاذهم معه إلى الصعيد، وقد انتقى محمد علي هؤلاء من بين إخوانهم، بينما ارتحل الباقون الذين كان قد طلبهم للاستعانة بهم في حرب المماليك، فخرج حوالي الخمسمائة من الدلاة في 13 مارس إلى قبة العرب ليسافروا إلى بلادهم، ثم سافروا، وبعد خمسة أيام قصد مصطفى بك بمن معه إلى الصعيد، وفي 4 نوفمبر 1811، أنفذ الباشا جيشا إلى الصعيد لقتال المماليك، وكان هؤلاء مقيمين في إبريم.

وفي أبريل 1812 كتب الوكلاء الفرنسيون: «أن إبراهيم بن محمد علي قد عين حاكما على الصعيد، وأنه اتخذ مقره العام في إسنا، وأن حوالي المائتي مملوك قد جاءوه يريدون العيش في كنفه، وتحت رحمة الظافر المنتصر، ولقد آثروا هذه المجازفة على ما فيها من أخطار جسيمة، على الذهاب إلى النوبة كما يبغي رؤساؤهم، فيعيشون في النوبة في بؤس وتعاسة »، وأضاف هؤلاء الوكلاء: «أن بكوات الصعيد - كما هو مألوف عادتهم - لا يزالون يتناقشون ويتباحثون فيما يجب عليهم أن يفعلوه في ظروفهم السيئة الراهنة»، ففريق يبغي الذهاب إلى الوهابيين، وآخر يريد البقاء على ضفاف النيل وعدم مغادرة البلاد التي خضعت لسلطانهم أزمانا طويلة.

وكان القتل نصيب الذين سلموا لإبراهيم، فكتب الوكلاء الفرنسيون ثانية في نشرتهم الإخبارية بتاريخ مايو 1812 «أن كل المماليك الذين حضروا مستأمنين قد قتلوا جميعهم في إسنا بأمر أصدره الباشا، بينما كان إبراهيم متغيبا عنها ومقيما بالقاهرة بالقرب منه، ومن بين الذين قتلوا جماعة كان إبراهيم نفسه قد أمنهم على حياتهم، ولم ينج من هذه المذبحة حتى الرقيق السود أو الأحباش الذين لا يتجاوز سنهم الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة.»

فكان بعد هذه المذبحة الثانية أن جلا البكوات نهائيا إلى السودان، ومن بينهم إبراهيم بك الكبير، وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي، وأحمد بك الألفي، وعلي بك أيوب ومحمد بك المنفوخ وعثمان بك حسن وأحمد آغا شويكار وعثمان بك يوسف، ومات إبراهيم بك الكبير في دنقلة في فبراير 1816، ثم أحضرت جثته في يوليو 1817 إلى القاهرة؛ حيث دفن بها بالقرافة الصغرى عند ابنه مرزوق بك، وقد ساعد الباشا في إحضارها من دنقلة.

وكان بعد كارثة المماليك بعشر سنوات تقريبا أن كتب «دروفتي» إلى حكومته في 10 يوليو 1822، وهو يستعرض ما مر بمصر من حوادث خلال السنوات العشرين التي قضاها بها، معلقا على ما بلغته مصر من تقدم على يد محمد علي، فقال: «ومن اللحظة التي كان من واجب محمد علي أن يختار فيها بين هلاكه هو نفسه وهلاك المماليك استطاع محمد علي وبقدر ما سمحت به الظروف، أن يقيم بمصر حكومة طيبة، ومن ذلك الحين؛ أي منذ 1812، أصبح لمصر نظام سياسي ثابت المعالم وصار لها مالية وجيش، ومن ذلك الحين استطاع الباشا أن يقهر وأن يقمع العربان البدو، وهو نجاح لم يدركه بتاتا من قبل أي غاز أو فاتح لهذه البلاد، ومن ذلك الحين استطاع محمد علي أن يسترد الحرمين الشريفين، الأماكن الإسلامية المقدسة من يد الوهابيين، وأن يفرض على هؤلاء الخضوع للقانون، كما استطاع أن يحكم أرستقراطية الوجاقلية والمشايخ، وأن يدخل الإصلاحات الواسعة والكثيرة في البلاد.»

وصفوة القول أن القضاء على المماليك، ثم تحطيم أرستقراطية المشايخ الذين تطلعوا - دون استحقاق - إلى الزعامة والتدخل في شئون الحكم عن أنانية ولا غرض لهم سوى رعاية مصالحهم الخاصة وإشباع شهوة فريق منهم في النفوذ على حساب الشعب، ثم ترويض الجند على الطاعة وإخضاعهم لمشيئة الباشا، كل تلك كانت مسائل لا مفر من مجابهتها إذا شاء محمد علي أن يدعم أركان ولايته في مصر.

ولا جدال في أن انفراده بالسلطة وبسط سلطانه الكامل على جميع أنحاء القطر الذي دخل في نطاق باشويته، كان الدعامة الأساسية التي يرتكز عليها استقرار حكومته، والتي يرتكز عليها - لهذا السبب نفسه - برنامج الباشوية الوراثية، أو مشروع ذلك الاستقلال الذي برز إلى عالم الوجود في صورته المحددة المعالم منذ عام 1807، وكان من الممكن - في نظره - تحقيقه، سواء بإحراز الاستقلال التام والانفصال عن جثمان الإمبراطورية العثمانية، أو بالبقاء في نطاق هذه الإمبراطورية في وضع يكفل استقرار الحكم الذاتي أو استقلال البلاد في شئونها الداخلية إذا تعذر الانفصال عن جثمان الإمبراطورية العثمانية.

صفحة غير معروفة