331

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

وطلب الباشا عمر مكرم للاجتماع به فامتنع، فلما أكثر من التراسل، قال السيد النقيب: إن كان ولا بد فأجتمع به في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون، فلما قيل للباشا في ذلك، ازداد حنقه، وقال: إنه بلغ به أن يزدريني ويرذلني ويأمرني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس.»

فكانت هذه الواقعة هي الفاصلة.

فقد حضر الباشا يوم 9 أغسطس إلى بيت ولده إبراهيم بك الدفتردار «وطلب القاضي والمشايخ المذكورين، وأرسل إلى السيد عمر رسولا من طرفه ورسولا من طرف القاضي، يطلبه للحضور ليتحاقق ويتشارع معه، فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم»، وكان الباشا قد أحضر الشيخ محمدا السادات الطامع في نقابة الأشراف من أمد بعيد، والشيخ عبد الله الشرقاوي، «فعند ذلك أحضر الباشا خلعة وألبسها الشيخ السادات على نقابة الأشراف، وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر (القاهرة) يوم تاريخه، فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله، فأجاب إلى ذلك، ثم سألوه في أن يذهب إلى بلده أسيوط، فقال لا يذهب إلى أسيوط، ويذهب إما إلى إسكندرية أو دمياط.»

وتلقى عمر مكرم هذه الضربة متجلدا، «أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه، وليس فيه إلا التعب، وأما النفي فهو غاية مطلوبي، وأرتاح من هذه الورطة، ولكن أريد أن يكون في بلدة لم تكن تحت حكمه إذا لم يأذن لي في الذهاب إلى أسيوط فليأذن لي في الذهاب إلى الطور أو إلى درنة، فعرفوا الباشا، فلم يرض إلا بذهابه إلى دمياط، ثم إن السيد عمر أمر باشجاويش أن يأخذ الجاويشية (الواقفين على بابه بوصفه نقيبا للأشراف) ويذهب بهم إلى بيت السادات (النقيب الجديد) وأخذ في أسباب السفر.»

وفي ثاني يوم (10 أغسطس) اعتنى السيد محمد المحروقي بن السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار (المتوفى منذ نوفمبر 1804) بأمر السيد عمر وذهب إلى الباشا وكلمه وأخبره بأنه أقامه وكيلا على أولاده وبيته وتعلقاته، فأجازه بذلك، وقال الباشا: «هو آمن من كل شيء، وأنا لم أزل أراعي خاطره ولا أفوته»، وطلب محمد المحروقي ابن السيد عمر، وقابله الباشا وطمن خاطره، ولكنه أصر على وجوب سفر عمر مكرم إلى دمياط.

وفي 13 أغسطس، اجتمع المودعون للسيد عمر، وحضر محمد كتخدا الألفي وكان قد تعين بالسفر صحبته إلى دمياط، فخرج عمر مكرم وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنا على فراقه، وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر؛ لأنه كان ركنا وملجأ ومقصدا للناس ولتعصبه على نصرة الحق، فسار إلى بولاق ونزل في المركب وسافر من ليلته بأتباعه وخدمه الذين يحتاج إليهم إلى دمياط. وفي 21 أغسطس رجع محمد كتخدا الألفي إلى القاهرة من تشييع السيد عمر معلنا وصوله إلى دمياط واستقراره بها.

وهكذا انتهت مسألة معارضة عمر مكرم للباشا، فلم يتحرك الشعب للثورة تأييدا لمعارضة زعيمه؛ لأن زعامة عمر مكرم كانت قد انقضت أيامها من زمن طويل، ولم يتحرك أحد من الرعية التي هدد النقيب بتأليبها على محمد علي لإنزاله عن كرسيه للدفاع عن هذا الزعيم والتمسك ببقائه والحيلولة دون نفيه؛ لأنه وإن كان موضع الاحترام والاعتبار عند الجميع، فإن هذا الاحترام لم يكن معناه تعلق الشعب به بالدرجة التي تحفزه على الثورة من أجله، فكان ما ظفر به عمر مكرم من حقوق الزعامة التي توهمها أن اغتم الناس على سفره وخروجه كما ذكر الشيخ الجبرتي.

ولما كان تقرير عمر مكرم في نقابة الأشراف، بعد حادث تجريده منها وتقليدها يوسف أفندي في غضون عام 1802 قد جاء من الدولة، فقد عني محمد علي بكتابة عرضحال موقع عليه من المشايخ كذلك يذكر الأسباب التي دعته إلى خلع عمر مكرم من النقابة؛ وحتى يبطل مساعي هذا في دار السلطنة، إذا حدثته نفسه بالقيام بمسعى هناك من أجل استرجاع النقابة، كما فعل في المرة السابقة، وكان لا بد من تسويد صفحة السيد عمر بصورة تقطع كل أمل ورجاء في ذلك، ووجد الباشا ضالته في الأشياخ الذين لم يتورعوا عن أن ينسبوا إلى عمر مكرم أشياء لم تحصل منه، وكان محمد السادات أول من أظهر الكامن في نفسه، وصرح بالمكروه في حق السيد عمر ومن ينتمي إليه ويواليه، وتعاون مع الدواخلي والمهدي في تسطير العرضحال بالصورة التي أرادها الباشا، وعدوا له مثالب ومعايب وجنحا وذنوبا ونسبوا إليه أنواعا من الموبقات التي منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود وقطع أناسا من الشرفاء المستحقين وصرف راتبهم للأقباط المدخلين، ومنها أنه أخذ من الألفي في السابق مبلغا من المال ليملكه مصر (القاهرة) في أيام فتنة أحمد باشا خورشيد، ومنها أنه كاتب الأمراء المصريين (البكوات المماليك) أيضا في وقت الفتنة حين كانوا بالقرب من مصر ليحضروا على حين غفلة في يوم قطع الخليج، وحصل لهم ما حصل، وكان يريد تمليكهم القاهرة في غفلة الباشا والناس والعساكر، فنصر الله عليهم حضرة الباشا - والمقصود هنا حادث يوم 16 أغسطس 1805 - فأراد التسبب في خراب الإقليم وإثارة الفتن وموالاة البغاة المصريين؛ أي البكوات، وتطميعهم في المملكة، ومنها أنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقض دولة الباشا ويولي خلافه ويجمع عليه طوائف المغاربة والصعائدة وأخلاط العوام، ومنها أنه هو الذي أغرى المصريين (البكوات) على قتل علي باشا برغل الطرابلسي حين قدم واليا على مصر، وهو الذي كاتب الإنكليز وطمعهم في البلاد مع الألفي حين حضروا إلى الإسكندرية وملكوها ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية، وغير ذلك.

نمق المشايخ - الذين سماهم الشيخ الجبرتي «مشايخ الوقت» - هذا العرضحال في 12 سبتمبر 1809 ليرسله الباشا إلى الدولة، ومن الواضح أن هذه الاتهامات التي كيلت كيلا لعمر مكرم كلها كاذبة، وصف الشيخ الجبرتي ما جاء بهذا العرضحال بأنه زور وبهتان، وأن ما سطر به كان من عبارات عكس القضية، وتنميق الأغراض النفسانية، ولو أن الشيخ لم يشعر بعطف على عمر مكرم في محنته هذه، لتعاونه مع الظالم، وتمكين سلطانه - في رأيه - فعلق على نفي عمر مكرم وتجريده من نقابة الأشراف ثم تسطير هذا العرضحال في حقه، أنه على حد من أعان ظالما سلط عليه، وأن الذي وقع له بعض ما يستحقه، ومن أعان ظالما سلط عليه، ولا يظلم ربك أحدا.

وكان الممتنع عن توقيع هذا العرضحال أولا وآخرا الشيخ أحمد الطحطاوي فلم ينج من شر المشايخ، الذين زادوا في التحامل عليه وخصوصا الشيخ محمد (ابن وفا) السادات، والشيخ محمد الأمير، ولحقت بالشيخ أحمد الطحطاوي إهانات كثيرة، وانتهى الأمر بعزله من إفتاء الحنفية في 14 سبتمبر 1809، وتعين الشيخ حسن المنصوري بدلا منه، وراحوا يبالغون في ذمه والحط عليه؛ لكونه لم يوافقهم في شهادة الزور، ثم تعين في مشيخة الحنفية بعد وفاة المنصوري في يناير 1815 ثم توفي في يونيو من العام التالي.

صفحة غير معروفة