ولقد أفصح الشيخ السادات في تذكرته هذه عن كل ما كان يدور في ذهن الجبرتي، ويختلج في صدره، وأما حكمه على هذه الفتنة الجامحة فقد أوجزه في قوله: «وانكشف الغبار عن تعسة المسلمين، وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين (الذاهبون هم العثمانيون الذين هزمهم الفرنسيون، والمتخلفون هم القاهريون وسائر أهل البلاد) وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب.»
على أنه لم يمض شهران تقريبا على انتهاء هذه الفتنة، حتى وقع مقتل الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبي في 14 يونيو 1800، فكانت نادرة عجيبة، حصلت بسببها هوجة عظيمة في الناس، وكرشة وشدة انزعاج، وقد كان لهذا الحادث أثر عظيم في نفسه بسبب ما كشفه له عن عدالة أقوام ملحدين، كان من المتوقع أن ينتقموا في سورة غضبهم لموت كبيرهم من الأهلين، دون تمييز بين مذنب وبريء، وهم أصحاب السطوة والسلطان، ولكنهم عدلوا، ولم يعمدوا إلى القصاص من القاتل وشركائه في الجريمة إلا بعد تحقيق ومحاكمة، مع ضبط القاتل وقت وقوع الجريمة واعترافه بجرمه، ثم أطلقوا ساحة من ثبتت براءته في المحاكمة، فكانت هذه ظاهرة غريبة على الشيخ وعلى معاصريه الذين ألفوا بطش الحكام بالأبرياء والمذنبين على السواء، ولقد تزايد إعجاب الشيخ بعدالة الفرنسيين، عندما استطاع أن يعقد مقارنة بين هذه العدالة التي أجروها في أحكامهم، وهم الذين لا دين لهم، وبين ذلك الظلم الذي قاسى الأهلون أهواله عند عودة هذه البلاد إلى حكم العثمانيين، وتسلط البكوات عليها من جديد بعد ذهاب الفرنسيين، واستمرت اعتداءات طوائف العسكر من أرنئود ودلاة وغيرهم سنوات طويلة، وقد حمله تقديره لهذه العدالة على إثبات صورة من الأوراق التي ضمنها الفرنسيون أخبار الواقعة والمحاكمة، وطبعوا منها نسخا كبيرة باللغات الثلاث: الفرنساوية والتركية والعربية، وذلك - كما قال الشيخ - «لما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل، ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج، وغدره، وقبضوا عليه وقرروه، ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار، بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم، بل رتبوا حكومة ومحاكمة، وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول، ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين، ثم نفذوا الحكم فيهم بما اقتضاه التحكيم، وأطلقوا مصطفى أفندي البرصلي الخطاط؛ حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص، كما يفهم جميع ذلك من فحوى السطور، بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدعون الإسلام، ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس، وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية مما سيتلى عليك بعضه بعد.»
وكان لهذه التجارب التي مرت بالشيخ أثرها - ولا شك - في اقتناعه بالتعاون مع الفرنسيين، فهم إلى جانب ما ظهر من اهتمامهم بالعلم، وتوفر علمائهم على البحث والتنقيب والدراسة بالرغم من الاضطرابات في القاهرة والأقاليم وذهاب عدد منهم ضحية لها، وإلى جانب ما أظهروه من تمسكهم بميزان العدالة، حرصوا على احترام شعائر المسلمين، ولم يكلفوا المشايخ المتصدرين الذين تعاونوا معهم عند مجيئهم، وصاروا أعضاء في الديوان الذي شكله بونابرت، بإتيان ما يتعارض مع الدين الحنيف، حتى إنه عندما رفض الشيخ عبد الله الشرقاوي وضع «الجوكار» - وهي العلامة التي يقال لها الوردة، كان رأي الجبرتي أن الشرقاوي لم يكن محقا في رفع هذه الشارة؛ لأن وضعها لا يخل بالدين، ثم إنه نجم عن تردد الشيخ على مجمعهم العلمي، وسؤاله لعلمائهم مستفسرا عما صار يصادفه لديهم من آلات أو يشاهده من تجارب علمية، وهم الذين إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدون الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، حتى إن الشيخ ذهب إليهم مرارا، وأطلعوه على ذلك - أن اتصل الشيخ بعدد من علمائهم، كما أنه عرف عددا آخر من الفرنسيين، عن طريق صديقه إسماعيل الخشاب، وكان لهذا مخالطة بهم، فتضافرت كل هذه العوامل على إزالة ما يكون قد تبقى لديه من نفرة منهم تحول دون تعاونه معهم إذا طلب إليه أن ينضم إلى أعضاء دواوينهم.
وعلى ذلك، فإنه عندما تسلم الجنرال «منو» قيادة الحملة العامة بعد مقتل كليبر، وأقام ديوانه الجديد في أكتوبر 1800 صار عبد الرحمن الجبرتي أحد أعضاء هذا الديوان، وصار صديقه إسماعيل الخشاب أمينا لمحفوظاته وكاتبا لسلسلة التاريخ؛ أي محاضر جلسات الديوان، ولقد كان هذا الديوان أداة طيعة في يد منو، ورضخ أعضاؤه لكل ما طلب «منو» منهم، ومبعث ذلك رد الفعل الذي حصل بعد ثورتي القاهرة السابقتين ومقتل كليبر، وصرامة الفرنسيين في الاقتصاص من الأهلين بفرض الغرامات الفادحة عليهم وانشغال القاهريين وأشياخهم بتدبير المال لدفعها، ثم يقين أعضاء الديوان بأن لا جدوى من المفاوضة أو المقاومة طالما كانوا عاجزين بمفردهم عن طرد العدو من بلادهم، كما كان مبعث هذا الرضوخ انتظارهم الفرج القريب على يد الجيوش المتأهبة للإغارة على مصر لإنقاذها من العدو، ولم يكن العثمانيون الذين فشلوا في قتال الفرنسيين، هم الذين تتألف هذه الجيوش منهم وحدهم، بل صار لهم حلفاء الآن من الإنجليز؛ أي من الجند المسلحين بأسلحة من طراز ما لدى الفرنسيين منها، والمدربين على نفس فنون الحرب والقتال التي درب الفرنسيون عليها.
ولا جدال في أن الشيخ الجبرتي منذ عضويته في هذا الديوان، صار يتنازعه عاملان: أحدهما الرغبة في مداراة الحاكمين، وكانت المداراة هي القاعدة التي بنى عليها سائر أعضاء الديوان كذلك مسلكهم مع قائد الحملة العام - لعل الشيخ يستطيع التوسط في قضاء حوائج الناس، أو لعل هذه المداراة ترفع شيئا من المظالم التي أوقعها الفرنسيون آنئذ في صورة مطالبهم المالية التي لا نهاية لها بالأهلين، أو لعله يتأتى من هذا التعاون ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار - أحد مشاريع «منو» التي عرضها على الديوان؛ توطئة لضبط المواريث، وتلك مسألة اهتم بها الأشياخ وقتئذ اهتماما بالغا. وأما العامل الثاني، فكان خجل الشيخ من هذا الرضوخ والاستسلام الذي لا خلاص منه، آية ذلك إغفاله في «تاريخه» إثبات تلك الورقة التي طلب «الكمثاري فوريه»
Fourier
من أعضاء الديوان أن يكتبوها تهنئة للجنرال «منو» على المولود سليمان مراد الذي ولد له من المرأة المسلمة الرشيدية.
ولزم الشيخ جانب الهدوء، وساير حكومة العهد الجديد كل المسايرة، فلم يعرف عنه أنه عارض في شيء، ولم يذكر هو عن نفسه أنه اقترح أمرا أو أبدى رأيا، فأما تعليل مسايرته فسهل ميسور، إذا أخذنا بالاعتبارات التي سبق ذكرها، وأما أنه لم يذكر عن نفسه ما يدل على مساهمته جديا في المسائل القليلة التي تركت الحرية فيها لأعضاء الديوان لمناقشتها وبحثها كمسألة ضبط الأنساب ومعرفة الأعمار، فلا ينهض دليلا على عدم نشاط الشيخ، بل إن مبعثه عامل الخجل الذي سبقت الإشارة إليه، ولا جدال في أن الشيخ لم يكن عضوا خاملا، وهو الذي يؤخذ من التفصيلات التي حواها «تاريخه» عن هذا الديوان أنه واظب على حضور جلساته واهتم بما صار يدور فيه، ولكنه مما لا شك فيه كذلك أنه عرف عند الفرنسيين بالاعتدال والاتزان، والابتعاد عن الشغب، أو الاندفاع وراء العواطف، يؤيد هذا القول، ترك هؤلاء له حرا طليقا، عندما أصعدوا فريقا من زملائه إلى القلعة وقت اقتراب خطر الجيوش العثمانية والبريطانية الزاحفة على القاهرة من هذه الأخيرة، فكان الجبرتي، مع خليل البكري ومحمد الأمير وموسى السرسي، هم الذي أبقاهم الجنرال بليار في الديوان، ثم انضم إليهم سليمان الفيومي الذي أفرج عنه بعد قليل، بينما اعتقل محمد الأمير.
ولكن الشيخ الذي تأثر بهياج الخواطر الذي انتشر بين الأهلين نتيجة لانهزام الفرنسيين على يد الجيوش الزاحفة، وتوقعهم الخلاص القريب، ولم ترضه الاعتقالات التي حدثت واستفزه عسف الفرنسيين في جمع الغرامات والإتاوات في ساعات احتضارهم الأخيرة، سرعان ما انتعش أمله في زوال هذا الحكم الأجنبي البغيض، لا عن طريق الثورة وإثارة الفتنة المؤذية والشعب، ولكن بمقتضى الحكمة الأزلية، التي شاءت عند تفاقم الظلم والجور أن يستبدل العدل بهما، وينصب ميزانه، فصارت بلاغات «بليار» و«منو» ورسائل هذا الأخير التي بعث بها من الإسكندرية إلى الديوان، تمويهات وأكاذيب، ومحشوة بالكلام الفارغ.
وأفصح الجبرتي عن فرحه لزوال حكم الفرنسيين، بإهدائه كتابه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» إلى الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا - على نحو ما تقدم ذكره - وقد استهله بقوله: «حمدا لمن جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، وجعل الدولة العثمانية والمملكة الخاقانية بهجة الدين والدنيا»، ووجد الشيخ عبرة في زوال ملك الفرنسيين بعد أن بدا أن أقدامهم قد رسخت في البلاد، وأن سلطانهم قد توطد بها، فإذا هم ينخلعون عن التصرف والتحكم وسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه! وراعه ما قصه عليه حسين بك وكيل قبطان باشا وكان بصحبة الباشا عند ذهابه إلى الإنكليز، أثناء الحملة لقتال الفرنسيين وإجلائهم عن البلاد. قال حسين بك: «كنا في نحو الخمسين والإنكليز في نحو الخمسة آلاف، فلو قبضوا علينا في ذلك الوقت لملكوا الإقليم من غير ممانع، فسبحان المنجي من المهالك!» فكان تعليق الشيخ على ذلك أنه «إذا تأمل العاقل في هذه القضية، يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام؛ حيث سخر الطائفة الذين هم أعداء للملة هذه لدفع تلك الطائفة ومساعدة المسلمين، مصداق الحديث الشريف وقوله
صفحة غير معروفة