281

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

وفي اليوم التالي (28 يناير) يؤكد ما ذكره أحمد شاكر، من حيث انتهاء مسألة استصدار العفو عن يوسف باشا كنج، «وأنه سيجري بعد هذا ما يلزم من ترتيبات ومساع خاصة بالمنصب الذي يلتمس الباشا إعطاءه له من قبل الدولة، وبغير ذلك من المسائل التي يلتمس الباشا إنهاءها»، ويؤخذ من رسالة نجيب أفندي هذه أن المسعى لنيل العفو عن يوسف كنج قد تكلف خمسة وعشرين ألف قرش، بعث نجيب أفندي يطلبها، وقال إنه لم يشأ إزعاج خاطر محمد علي بطلبها في أثناء المسعى الذي انتهى إلى هذه النتيجة، وكان في هذه الرسالة كذلك، أن راح محمد نجيب يؤكد ويقسم بالله العلي العظيم أنه ما إن يرد القسطنطينية الخبر بقيام طوسون باشا ودخوله إلى ميناء ينبع في أقرب وقت، حتى يتم إنجاز كل ما يطلبه مولاه محمد علي فورا، وبصورة تفوق كثيرا على كل ما يرجوه محمد علي. ويلحف عليه لذلك في سرعة إرسال طوسون باشا إلى ينبع.

على أن الأهم من ذلك كله، أن الباب العالي لم يلبث أن وعد برفع إيالة مصر إلى مرتبة الوجاق، على غرار وجاقات الغرب، فكتب محمد نجيب في 28 يناير 1811، يستحثه مرة أخرى على إرسال جيشه إلى الحجاز، «ويحلف يمينا لا يحنث فيها أبدا أنه إذا أنفذ الباشا جيشه إلى الحجاز، ولازمه التوفيق في خدمة الحرمين الشريفين؛ أي إنقاذهما من الوهابيين، فوالله إن طلباته من الباب العالي سوف تجاب جميعها دون حاجة إلى التماس أو توسط، والله وحده هو العليم بما سوف يحدث من أجل رفع شأنه وإعلاء قدره بالحظوظ الهمايونية والعنايات الملكية الأخرى التي تتضمن جعل إيالة مصر منحصرة في أولاد محمد علي وسلالته الطاهرة، مع توجيه رتبة الخان الرفيعة له.» ثم استطرد محمد نجيب فقال: «ولا يجب أن يساور محمد علي أي شك في حصول ذلك»، وأقسم بالله العظيم أن هذه المسألة موعود بها، واختتم رسالته قائلا: «وخلاصة القول يا مولاي، تفضلوا ببذل الهمة نحو إنهاء هذه المسألة، وأفرحونا بالبشائر، ثم اطلبوا ما تشاءون، تجدوا كل ما تطلبونه قد تنفذ، ولكم أن تفعلوا بي ما تشاءونه إذا امتنع تنفيذ شيء منها.»

وكان هذا الوعد فصل الخطاب، في قضية يوسف كنج وسليمان باشا، فقد وصل ططريان القاهرة في 18 مارس 1811، يبشران بالعفو عن يوسف باشا المنفصل عن الشام، وذاع في القاهرة أنه قد قبل فيه ترجي باشة مصر وشفاعته، وبعث محمد علي إلى الباب العالي في 20 مارس بقائمة شكر على العفو الصادر عن حضرة يوسف باشا كنج، ورفع عقوبة الإعدام عنه، وعلى الوعد الهمايوني بالتفضل عليه بمنصب ولاية جدة.

حقيقة ظل محمد علي، يلح في الشهور التالية في إرجاع يوسف كنج إلى ولاية الشام، وعزل سليمان باشا عنها، بدعوى أن وجود الأول في دمشق يفيد في معاونة محمد علي وإمداده بسهولة بحاجته من الخيام وغير ذلك من عتاد الحرب، فضلا عن استطاعة الباشا أن يسند إليه قيادة عدة آلاف من الفرسان مع معيناتهم ليزحف بهم من الشام على الحجاز، في الوقت الذي يجري فيه الزحف من مصر، مما يكفل إنجاز مصلحة الحجاز سريعا. ولكن الباب العالي ظل مصرا على موقفه، وانصرف الباشا لإتمام استعداداته بكل همة، وشرع في إرسال الجند ومهمات الحملة من السويس بالسفن منذ 3 سبتمبر 1811، قاصدة ينبع، وغادر طوسون باشا بركة الحاج مع فرسانه في 6 أكتوبر قاصدا إلى الحجاز بطريق البر.

وبذلك يكون قد انتهى الوجه الأول من سياسة محمد علي، الذي بدأ من وقت جلاء الإنجليز عن الإسكندرية في سبتمبر 1807، وانتهى عند خروج الحملة الوهابية إلى الحجاز في سبتمبر 1811، ولقد كان نشاط الباشا السياسي طوال هذه السنوات الأربع، محصورا في شيء واحد، دعم أركان الولاية. ومن أهم الوسائل لدعمها الظفر بالباشوية الوراثية، فكان هذا الغرض الأوحد الذي سعى إليه وقتئذ، هو العامل الذي أثر على تكييف علاقاته مع كل من إنجلترة وفرنسا والباب العالي، بالصورة التي شهدناها، ولقد صادفت الباشا عقبات كثيرة حالت دون تحقيق مشروع استقلاله، مبعثها رفض كل من إنجلترة وفرنسا لأي تغيير يطرأ على طبيعة صلات التبعية التي تربط بين باشوية مصر والباب العالي التي هي من أملاكه، وهو صاحب السيادة الشرعية عليها.

وقد رفض الإنجليز تأييد مساعي الباشا حرصا منهم على استرضاء الباب العالي، وضمانا لوقوفه موقف الحيدة - على الأقل - في الصراع الدائر بينهم وبين خصومهم الفرنسيين، ثم تجنبا لخلق مشكلات جديدة في داخل الدولة، في وقت كان الاعتقاد السائد أنها مترنحة وعلى وشك السقوط والانهيار، ويخشى إذا نال منها الإعياء بدرجة عجلت بسقوطها فعلا، وأفسحت المجال للدول الطامعة في أملاكها للإغارة عليها، أن يترتب على ذلك: إما ازدياد قوة روسيا، وإما ازدياد قوة فرنسا، مع ما يترتب على كلا الأمرين من زعزعة التوازن السياسي في أوروبا عموما، ثم زيادة متاعب الإنجليز وسائر الأمم المناوئة لسلطان نابليون وسيطرته المنبسطة وقتئذ في أوروبا.

وأما الفرنسيون فقد كان مبعث رفضهم، تمسك عاهلهم نابليون بسره الذي دار حول أمر واحد في هذه السنوات، هو محاولة تكميل إمبراطورية الغرب التي أقامها، بإدخال إمبراطورية الشرق تحت سلطانه، فلم يدخل في نطاق هذه السياسة إذا، تقوية الباشوية المصرية، وهي المقاطعة التي ما فتئ نابليون يرنو ببصره إليها منذ جلاء جيش الشرق عنها في عام 1801 والتي لم يصرفه عن إنفاذ جيش جديد لغزوها وامتلاكها سوى انشغاله بحروبه في أوروبا، حتى أذنت حملة روسيا في عام 1812، بانهيار كل مشروعاته الشرقية، فعلا وحقيقة.

ولقد أفاد محمد علي من انشغال الإمبراطور في أوروبا، من حيث عدم تعرض باشويته لغزو جديد، بعد خروج الإنجليز من الإسكندرية، فاستطاع تدبير شئونه الداخلية بصورة أفضت عند انقضاء هذه السنوات الأربع إلى دعم أركان ولايته، ثم إنه أفاد كذلك من انشغال الإنجليز في حروبهم ضد الإمبراطور، من حيث إنه استطاع إنشاء علاقات المودة والصداقة معهم والإبقاء عليها، وهي العلاقات التي أراد هؤلاء أن تسود بينهم وبينه؛ لحاجتهم إلى غلاله من جهة؛ وليطمئنوا من جهة أخرى على عدم خضوعه للنفوذ الفرنسي، ورضي الباشا أن يستبدل الصداقة والمودة فحسب بالمحالفة التي كان يريدها مع الإنجليز، فتظل علاقاته التجارية معهم؛ كي يكون له منها معين من المال لا ينضب، يعاونه على توطيد سلطانه في باشويته.

وكان الباشا أكثر توفيقا في علاقاته مع تركيا، صحيح أنه لم يظفر بإعلان باشويته وجاقا من نمط وجاقات الغرب، ولكنه ظفر بوعد جازم بإعطائه الحكم الوراثي في مصر، إذا هو أنفذ جيشه إلى الحجاز، ونجح في إنقاذ الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، وكان هذا فوزا ارتضاه محمد علي؛ لأنه كان يساوره الشك بتاتا في قدرته على هزيمة الوهابيين والنجاح في هذه المهمة التي عهد بها إليه الباب العالي؛ ولأنه كان قد عول على الاتجاه صوب الشرق قطعا، وكان يعنيه أن ينجح في مهمته.

على أن هناك ملاحظة هامة، هي أنه ما كان يستطيع محمد علي عرض مطالبه على الباب العالي، باللهجة التي ظهرت في شفاعته في حق يوسف كنج، أو في حملته العنيفة التي أثارها على سليمان باشا، وطلب عزله من إيالة الشام، لو أنه شعر بضعف مركزه في ولايته، بل إن مطالبه من الباب العالي - بما في ذلك سؤاله أن يمده بذخائر الحرب، والصواري لسفنه، وغير ذلك من عتاد الحرب - كانت تزيد وتقوى بقدر ما كان يحدث من دعم أركان حكمه في باشويته، فهو قد أنهى الفتن الداخلية، ونجح في تطويع الجيش، وإقصاء رؤسائه المتمردين، وقضى على نفوذ المشايخ وأبعدهم عن شئون الحكم، ونفى متزعم المعارضة السافرة ضده، عمر مكرم، وبدا في وقت ما أنه نجح كذلك في معالجة مسألة البكوات المماليك، وذلك قبل القضاء عليهم نهائيا في مذبحة القلعة، وكان كل نجاح يحرزه في هذا الميدان الداخلي، يزيد من اعتداده بنفسه، ومن تقوية يده في علاقاته مع الديوان العثماني؛ ولذلك فقد ارتبطت سياسة محمد الداخلية في هذه السنوات الأربع، ارتباطا وثيقا بسياسته الخارجية، وكانت كل منها متممة للأخرى بصورة واضحة.

صفحة غير معروفة