274

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

وعلاوة على هذا الاهتمام الذي أبداه الباشا لإكمال استعداداته البحرية، فقد خفف شيئا من مطالبه الأولى من الباب العالي، وقصر هذه الآن على عدد من عربات المدافع وقليل من المهمات الأخرى من ذخائر الحرب، ولما كان محمد علي يشك في إخلاص الشريف غالب، فقد أشار على الدولة أن تستوثق من نواياه نحوها فتبعث إليه بكتاب بالعربية تستفسر منه عما إذا كان في عزمه الممانعة في دخول جند محمد علي إلى الحجاز أو أنه سوف يؤازرهم؟

وكان لما ظهر من جدية استعدادات الباشا - لا سيما فيما يتعلق بإنشاء السفائن اللازمة لنقل الجيش إلى جدة وينبع، ثم وعده بإنفاذ الحملة سواء خرج واليا الشام والعراق أم لم يخرجا، ثم إشارته على الدولة بالكتابة إلى الشريف - أحسن الأثر في نفس السلطان العثماني، فبدأت من ثم تزول هواجسه من ناحية محمد علي وتتحسن العلاقات بين الفريقين تحسنا ملموسا، كان من أثره أن اختار السلطان رسولا ذا مكانة لحمل فرمان التثبيت في الولاية عن عام 1810 إلى القاهرة، كما اهتم الباب العالي بإنجاز المهمات التي طلبها الباشا لإرسالها إليه بكل سرعة.

فبادر سليم ثابت، أحد وكلاء الباشا في القسطنطينية، يبلغه منذ 20 مارس، بأن المهمات التي يطلبها الباشا، لا سيما القنابل يجري شحنها من ميناء قولة لإرسالها أولا بأول مع السفن الذاهبة إلى مصر، ومن هذه مركب القبطان ديمتراكي الأنزلي، على وشك الإقلاع، بعد أن استأجرتها الدولة تنقل إلى مصر إحدى عشرة قنبلة وعشر عربات للمدفعية الخفيفة، ويرجوه (في 25 مارس) أن يعيد هذه السفينة محملة بالغلال إلى القسطنطينية.

ثم إن سليم ثابت كتب إليه في 20 مارس، لبيان الأثر الطيب الذي أحدثه اهتمام الباشا بمسألة الحرمين الشريفين، أن هذا الاهتمام قد أكسبه رضاء السلطان، وأنه عند توفيق الباشا في هذه الخدمة الخيرية الجليلة، سوف تترى عليه الإنعامات الكثيرة عند انتهاء حسن خدمته للدولة. بل إن الباب العالي لم يلبث أن عهد إليه بتفويض كامل بمهمة إنقاذ الحرمين مستقلا عن واليي الشام والعراق، كما بعث إليه بصورة من الكتاب الذي سطره للشريف غالب بن مساعد ومفتيي المذاهب الأربعة والسادة وكافة القبائل وعشائر العربان، وجميع الأهلين المسلمين، وقد نعت هذا الأمر العالي، الموشح بالخط الشريف محمد علي نعوتا عظيمة، فبعث الباشا في 16 أبريل 1810، يقدم فروض الولاء والشكر للسلطان، وينبئ الباب العالي، بأنه عين لحملة الحجاز، صفوة من رجاله، الحائزين لرتبة رياسة بوابي دار السعادة بالديوان العثماني: صالح آغا (قوش)، وحسن آغا محافظ دمياط، وسليمان آغا محافظ رشيد، وغيرهم من الرجال المحنكين، على رأس سبعة آلاف جندي من الترك والأرنئود المتمرسين في الحروب، وعين قائدا عاما أو «سر عسكر» للحملة ولده طوسون أحمد باشا، على أن يكون مدير مهمات الجيش السيد طاهر أفندي، وهو صاحب خبرة بشئون الحجاز لسابق خدمته الطويلة به، كما أبلغ الباب العالي، بمناسبة إخفاق الوساطة لدى السفير الإنجليزي لشراء إحدى السفن من مالطة، أنه لم تعد له حاجة بها وبغيرها من السفن التي يمكن إحضارها من جزر بحر إيجة أو المواني العثمانية أو أسطول الدولة؛ حيث إن ميناءي دمياط والإسكندرية صارتا تذخران بالأخشاب من كل نوع، وأنه قد تم في بولاق تجهيز الأخشاب اللازمة لصنع إحدى وعشرين سفينة، تحمل الجمال هذه الأخشاب إلى السويس؛ لتركيب السفن بها، وأن إسماعيل جبل طار أو البشكطاش (جبل النار) قد صار إنفاذه - مع الفرقاطة أفريقية - إلى مالطة، في طريقه إلى البحر الأحمر بالدوران حول رأس الرجاء الصالح، وأنه قد اعتزم إرسال مهمات الحملة في هذه السفن وغيرها من نوع «الداو» التي استولى عليها في البحر الأحمر، وذلك مع قسم من الجيش، بينما يذهب القسم الآخر بطريق البر، يدفعه إلى فعل ذلك، إشادة السلطان بمناقبه ونعته بالحيدري الشيم.

وهكذا صفت الأمور بين الباشا والباب العالي، وبدا أن الأول معتزم حقا وصدقا إنفاذ الحملة إلى الحجاز، ولو أنه كان من الواضح أن استرضاء الباب العالي كان جزءا من الخطة التي رسمها الباشا لنفسه وقتئذ، والتي صار مدارها الحرص على علاقات المودة والصداقة مع الباب العالي، في الوقت الذي لم تسفر مساعيه لدى الوكلاء الإنجليز والفرنسيين عن النتيجة المرجوة، وكان مما شجع محمد علي على التعهد بإنفاذ جيشه لقتال الوهابيين فور فراغه من استعداداته التي يسير فيها بكل همة، أنه كان كبير الأمل في إنهاء خلافاته قريبا مع البكوات المماليك، ووعد إبراهيم بك وزملاؤه بالحضور من الصعيد إلى القاهرة، ليضعوا أنفسهم تحت إشرافه ومراقبته، اعترافا منهم بسلطان حكومته عليهم، كما سيأتي ذكره في موضعه.

ولكن الجو لم يلبث أن اكفهر مرة أخرى، وشاب بعض الكدر العلاقات بين الباشا والباب العالي عندما عمد هذا الأخير إلى خلع يوسف كنج باشا من ولاية الشام، وولى مكانه سليمان باشا الكرجي والي عكا وصيدا، فجمع سليمان حكم هاتين الولايتين في يده، ونشأت من ذلك مشكلات عدة، وصار محمد علي يلح في رجاء الباب العالي إعادة يوسف كنج إلى منصبه وعزل سليمان باشا، لا سيما بعد أن ثبت أن لهذا الأخير صلات مع البكوات المماليك، وقد ظلت مسألة يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي هذه موضع أخذ ورد طويلين، حتى استطاع الباشا استئصال شأفة البكوات في مذبحة القلعة المعروفة، فانتفى الخطر من جهتهم، وصار لا يخشى من ناحية اتصال فلولهم بسليمان باشا، وحتى ظفر الباشا كذلك بوعد صريح من الباب العالي بتقرير الباشوية الوراثية في مصر، إذا هو أنفذ جيشه إلى الحجاز، وانتصر هذا الجيش على الوهابيين.

بيد أن الوصول إلى هذه النتائج التي حصل عليها الباشا، كآثار مباشرة لقضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي، لم يكن سهلا هينا، بل كادت تتحرج بسبب هذه القضية العلاقات بين الباشا والباب العالي، لولا تغلب الحكمة من الجانبين فيرضى الأخير من جهة، بأن يقطع على نفسه عهدا بجعل الحكم وراثيا في أسرة محمد علي، ولو أنه جعل عهده هذا مشروطا بنجاح الحملة المصرية، ويصح عزم الباشا من جهة أخرى على إنفاذ حملته إلى الحجاز بعد أن قر رأيه على الاتجاه صوب الشرق نهائيا؛ لما في ذلك من مزايا، ينتفع بها في توطيد أركان باشويته. (10) قضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي

وتفصيل خبر هذه القضية وتتبع آثارها، يرتبط ارتباطا وثيقا بذلك التطور الذي ساعد على تكييف سياسة محمد علي، ورسم خطوطها، وهو التطور الذي شهدنا أولى مراحله تبدأ بمراقبة محمد علي للأمور، ودراسة الأوضاع السائدة في البلاد، ووزن القوى المتناحرة فيها لا سيما منذ أن صار أحد قائدي الأرنئود الكبيرين، واشترك في الحوادث التي أفضت إلى طرد محمد خسرو باشا من الولاية، ثم لا يزال هذا التطور ينتقل من مرحلة إلى أخرى أثناء المناداة بولاية محمد، وأثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم أثناء حملة «فريزر» حتى إذا ظهرت مسألة الحرب الوهابية، كان قد صار الغرض الأوحد من سياسته هو الظفر بالحكم الوراثي في مصر، سواء تحقق ذلك، برغم أنف الباب العالي - وقد تبين لمحمد علي أنه يتعذر عليه فعل ذلك؛ لعدم تأييد الدولتين (إنجلترة وفرنسا) لمشروع استقلاله - أم جاء بموافقة صاحب السيادة الشرعية عليه، وهو أمر اعتقد الباشا أن من الميسور تحقيقه إذا نجح في استرضاء الباب العالي، على أنه مما تجدر ملاحظته أن بروز قضية يوسف كنج وسليمان باشا في هذه المرحلة، كان بسبب ما انطوت عليه هذه القضية من حقائق متصلة بوضع باشويته في علاقاتها مع مقر السلطنة، كولاية من ولايات الدولة العثمانية، للسلطان العثماني شرعا وقانونا مطلق التصرف في مصير ولاته عليها، يبقيهم في مناصبهم بها أو يعزلهم عنها، ثم بسبب الملابسات التي لابستها، من حيث صلة باشويته بالولايات العثمانية الأخرى المتاخمة لها، وهي صلة لا محيد عن خضوعها لأثر الحوادث الطارئة في هذه الولايات عليها، نقول إن بروز هذه القضية كان من أحسم العوامل التي جعلت الباشا يتجه بنظره من هذا الوقت المبكر صوب الشرق؛ أي صوب الشام.

حقيقة تنازعت الباشا الرغبة في التوسع نحو الغرب، وظهرت آثار هذه الرغبة عندما تزوج محمد علي في مايو 1812 من أرملة أحمد باشا القره مانلي الذي أخرجه أخوه يوسف باشا حاكم طرابلس الغرب من حكومة أو باشوية بنغازي في عام 1805، فلجأ إلى مصر، ولم تكن هذه المرة الأولى التي فعل فيها ذلك؛ حيث كان قد لجأ إلى الإسكندرية وأقام بالصعيد بعض الوقت في العام السابق، وقد عاش الآن بالإسكندرية ثم توفي بها بعد ست سنوات، فتزوج الباشا من أرملته، وأغدق على إخوتها العطايا، وكتب «سانت مارسيل» إلى حكومته في 20 مايو 1812 يعلق على هذا الحادث بأن ما فعله الباشا إنما يحمل على الاعتقاد بأنه ما تزوج هذه الزيجة إلا من أجل تحقيق مأربه، وهو غزو برقة، التي امتلكها ملوك مصر القدماء في الزمن الغابر.

ولكن هذا الاتجاه نحو الغرب كان حدثا عابرا، فقد أقر «سانت مارسيل» نفسه في رسالته السالفة بأنه من المعروف أن أطماع باشا مصر، هي إنشاء حكومته على غرار حكومات وجاقات الغرب، إذا شاءت الدول العظمى تأييد أهدافه، وفضلا عن ذلك، فإنه ما أن أثيرت قضية يوسف كنج وسليمان باشا الكرجي، وتوسط محمد علي لدى الباب العالي لإرجاع يوسف كنج إلى ولاية دمشق، وإلحافه في عزل سليمان باشا، حتى راح «دروفتي» يوضح لحكومته في 11 نوفمبر 1810 بواعث هذا المسعى، فقال: إن محمد علي يبغي من إعادة باشوية دمشق إلى يوسف كنج، وضع قدمه في الشام، وتحقيقا لهذه الغاية يريد كذلك تنصيب ولده طوسون باشا على ولاية صيدا وعكا، بدلا من واليها سليمان باشا، ثم يستطرد «دروفتي» فيقول: ومع أن مساعيه في صالح يوسف كنج لم تلق قبولا لدى الباب العالي فإن ذلك لا يمنع الاعتقاد بأنه من المحتمل أن ينفذ الباشا خططه التي يبغي منها امتلاك سوريا. ثم عاد «دروفتي» في 19 أبريل 1811 يتحدث عن غايات محمد علي فقال: «إنه؛ أي القنصل الفرنسي، علم أن الباشا كلف قبو كتخداه في القسطنطينية أن يجس نبض وزراء السلطان العثماني في احتمال ظفره بالاستقلال الذي يريده، وفضلا عن ذلك، فهو؛ أي محمد علي، يبغي دائما الحصول على باشوية الشام، وذكر لي ذات يوم أن هذا لن يكلفه سوى سبعة أو ثمانية ملايين قرش يدفعها لخزانة السلطان»، بل إن «دروفتي» ساورته الشكوك من ناحية الغرض الذي يبغيه الباشا من استعداداته العسكرية، فقال في كتابه إلى حكومته في 5 يونيو 1811: «إن الباشا منذ عودته من الإسكندرية في 30 مايو، قد اختص بكل عنايته الجيش الذي يتهيأ بقيادة طوسون باشا لقتال الوهابيين، ولكن كل الاستعدادات التي أجريت تدل على أن هذا الجيش سوف يقطع الصحراء للذهاب إلى سوريا، والحقيقة أن غرض هذه الحملة الصحيح لا يزال سرا يكتمه الباشا، الذي لا يترك حتى في هذا الأمر ذلك النظام الذي درج عليه في سياسته من حيث التأني والتمهل والتسويف، ثم العمل حسبما تقتضيه الظروف.»

صفحة غير معروفة