271

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

ثم إنه كان في هذه الرسالة أن راح محمد علي يبسط الأسباب الأخرى التي تمنعه من إنفاذ الحملة، فقال: إن الزراعة قليلة في هذا العام لانخفاض النيل، ولأنه علاوة على ذلك قد شاء قضاء الله وقدره أن تهب ريح سموم عاتية فتكت بالزرع، فشحت الغلال وارتفع ثمنها حتى بلغ سعر الإردب المصري عشرة ريالات، أضف إلى هذا أنه من الواضح أن توجه عبدكم محمد علي من مصر قبل انعقاد الصلح (بين تركيا والدول) أمر ينطوي على الخطر كل الخطر؛ حيث إن الدول الأجنبية تتطلع للاستيلاء على هذه البلاد؛ ولذلك فإنه يرجو بمجرد أن يبعث الباب العالي بالإمدادات التي تضمنتها القائمة التي أرسلها الباشا طي رسالته السابقة في 10 مارس، أن يستطيع الذهاب إلى الحجاز في السنة القابلة؛ حيث إن ذهابه في هذا العام، للأسباب التي ذكرها قد صار متعذرا، وقد اختتم محمد علي هذه الرسالة بقوله: وها هو ذا الشريف غالب قد استولى على قلعة المويلح برا وبحرا، وشرع يعتدي على أطراف الشام، وهو متحد مع الوهابي، فواجب الدولة - على نحو ما أراد أن يقول - أن تتدبر الأمر بسرعة.

أما الدولة فقد أخذت - على ما يبدو - برأي محمد علي، فوجهت سر عسكرية الحجاز مع إيالة الحبشة وجدة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأعظم السابق؛ حتى يتولى القيادة العليا للعمليات العسكرية المزمعة في الحجاز، على أن يكون زحفه من جهة الشام، وأصدرت أوامرها إلى سليمان باشا والي بغداد، حتى يزحف من العراق على نجد، وطلبت من محمد علي الزحف من مصر على مكة والمدينة، ثم اهتم الباب العالي بإجابة مطالب الباشا حسب القائمة التي أعدها، ولكنه حتى نهاية عام 1808، لم يكن محمد علي قد أرسل الدفتر المبينة فيه تفاصيلها، مما سبب ارتباكا عظيما لوكيل الباشا في القسطنطينية، محمد نجيب أفندي، الذي بعث يرجو سرعة إرساله. وفي 28 نوفمبر صدر قرار الباب العالي بتثبيت محمد علي باشا في الولاية، كما بعث السلطان في الشهر نفسه، يثني على حسن إدارته ويشكره على حكومته الطيبة، وينقل إليه خبر تثبيته في وظائفه، ويذكره بواجبات هذا المنصب، ومنها أن يتبع التعليمات التي بعث بها إليه يوسف ضيا باشا والي جدة وحلب والقائد الأعلى للحجاز، وأن يعمل لتأمين الشواطئ والمواقع المصرية.

وكان مقصد محمد علي، عندما لفت نظر الدولة إلى استفحال شر الوهابيين بالحجاز، واتحادهم الأخير مع الشريف غالب، وهو الاتحاد الذي مكنهم من الاستيلاء على قلعة المويلح، وغزو أطراف الشام، ثم صار - لذلك - يكرر القول في ضرورة خروج جيوش ثلاثة من العراق والشام ومصر في وقت واحد ضد الوهابي؛ كان مقصد محمد علي، عدا انتحال الأعذار لعدم الخروج إلى الحجاز في سنته، أن يظفر بولاية جدة (الحجاز) والقيادة العليا للقوات المحاربة هناك؛ حيث إن الباب العالي قد عهد إليه بمأمورية الحجاز وفوضه في إنهائها، حتى إذا صح عزمه نهائيا على الذهاب إلى الحجاز، وفي الوقت الذي يلائمه، كانت إيالة الحبشة وجدة التعويض أو المكافأة التي ينالها عند انتصاره على الوهابيين.

وكاشف الباشا كتخداه في القسطنطينية، محمد نجيب بما يريده، ولكن الأخير لم يجد الظرف مناسبا لإثارة هذا الموضوع في دوائر الديوان العثماني؛ لأن محمد علي حتى هذا الوقت، كان لا يزال يتلمس شتى الأعذار للمماطلة والتسويف، وإرجاء الخروج إلى الحجاز من عام إلى آخر، فلم يكن الباب العالي راضيا عن مسلكه، فآثر محمد نجيب كتمان هذه المسألة حتى تحين الفرصة المواتية، ثم إنه لم يلبث أن كتب إلى محمد علي عندما تعين يوسف ضيا لسر عسكرية الحجاز، وآلت إليه ولاية الحبشة وجدة «أنه وإن صار توجيه عسكرية الحجاز مع إيالة الحبشة وجدة إلى يوسف ضيا باشا الصدر الأسبق، وكما سبق أن أبلغه محمد نجيب إلى الباشا من قبل فإنه من غير المقطوع به حتى الآن، ما إذا كان الصدر سيذهب فعلا إلى الحجاز أو لا يذهب؛ ولذلك فقد استحث محمد نجيب في رسالته هذه بتاريخ 17 ديسمبر، الباشا على الخروج إلى الحجاز، ووعد أنه عند تحرك محمد علي بإذن الله، في السنة القابلة من مصر، يقوم بإجراء ما يلزم من أجل توجيه إيالة جدة إلى عهدته.»

وفي 8 فبراير 1809 وصل القاهرة قابجي، «وعلى يده مرسومان، أحدهما تقرير للباشا على ولاية مصر، والثاني يذكر فيه أن يوسف باشا ضيا المعدني (أو المعدن) الصدر السابق تعين بالسفر على بلاد الشام لتنظيم بلاد العرب والحجاز، وأن يقوم محمد علي باشا بلوازمه وما يحتاج إليه من أدوات وذخيرة وغير ذلك. وفي الشهر نفسه وصل قاصد يخبر بوصول قابجي وعلى يده مرسومان: أحدهما الأخبار عن صلح الدولة مع الإنجليز والموسكوب وانفتاح البحر وأمن المسافرين، والثاني الأمر بالسفر والخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما، وأن يوسف باشا الصدر السابق المعروف بالمعدن تعين بالسفر للحرمين عن طريق الشام، وكذلك سليمان باشا والي بغداد متعين أيضا بالسفر من ناحيته (العراق) على الدرعية ، وأحضر للباشا تقريرا بالولاية مجددا وخلعة وسيفا.» وفي 18 مارس 1809 وصل القابجي إلى القاهرة، وطلع إلى القلعة؛ حيث قرئت المراسيم بحضرة الجمع.

ولكن الباشا وقتئذ كان مهتما قبل كل شيء بإخراج تجريدة إلى البكوات المماليك بالصعيد لنكثهم عهودهم معه، في ظروف سوف يأتي بيانها في موضعها ، ولم يعر هذه الأوامر التي تطلب منه الخروج إلى فتح الحرمين وطرد الوهابية عنهما أي التفات. وقد علق الشيخ الجبرتي على عدم تلبية الباشا لرغبات الديوان العثماني من حيث إرسال الإمدادات المطلوبة إلى يوسف ضيا، بأنه لم يظهر لذلك الكلام أثر بيد أن كتخدا بك (محمد آغا لاظ) بالغ في الحفاوة بالقابجي عند وصوله، وقد كان الباشا وقتئذ متغيبا بجهة السد - سد الترعة الفرعونية - وتوافد الأعيان والأشياخ، وأكابر الدولة للسلام عليه، وضربوا بعد الفراغ من قراءة المراسيم مدافع وشنكا، ووعد الباشا بالاهتمام بأمر هذه الحملة الهامة، ولكنه كان من الواضح - على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في 9 أبريل 1809 - أن الباشا قطعا لا ينتوي فعل شيء.

وعلل «دروفتي» السبب في ذلك بقوله: «إن تخليص الحرمين الشريفين اللذين يعتبرهما المسلمون حرز الإمبراطورية العثمانية، التي تتوقف سلامتها على بقائهما في كنفها وتحت رعايتها، لم يكن محببا إلى قلب محمد علي، بقدر ما كان لباشويته من محبة في قلبه، والثابت قطعا أنه إنما يحكم مصر بفضل ما لديه من قوة فحسب، وهو دائب على اتخاذ كل الوسائل التي تضمن له بسط سلطانه في مصر وتأكيده.»

وبعث محمد علي إلى الآستانة في 6 مايو يقول: إنه قد وصله أمر الباب العالي «بشأن مباشرة فتح الحرمين الشريفين هذه السنة، ودفع الخارجي؛ أي الوهابي عنهما، وأن الباب العالي قد عين يوسف ضيا باشا والي جدة وحلب حالا، والصدر الأعظم سابقا، قائدا عاما للحجاز، باستقلال تام، وتفويض كامل، لا جدل فيه ولا مناقشة، على أن يزحف سليمان باشا والي بغداد عن طريق الأحساء والدرعية، وأن يتحرك محمد علي من مصر على جدة وينبع، بالمخابرة مع حضرتي المأمورين المشار إليهما»؛ ولذلك فهو يمتثل لإرادة السلطان العثماني، ويؤكد أن غايته إنما هي خدمة هذه المصلحة الخيرية، ملبيا لرغائب القائد العام، الذي يضع نفسه تحت أوامره بموجب الأوامر العلية الصادرة إليه، ويختم رسالته بإظهار استعداده للحركة، بمجرد أن يبلغه تحرك المأمورين المشار إليهما.

وحدث في هذه الأثناء أن جاء إلى مصر جماعة من حجاج المغاربة وغيرهم في طريق عودتهم إلى بلادهم، يحملون معهم عريضة من أهل مكة والمدينة يشكون فيها من سوء معاملة سعود بن عبد العزيز لهم ولسائر الحجاج، ومنعه ذكر اسم السلطان في الخطبة، ورفعه لستار الكعبة (الكسوة الشريفة) واستبداله بها عباءة سوداء، مكتوب عليها لا إله إلا الله، سعود خليفة الله، وأخبر هؤلاء أن غرض سعود من كل ذلك، إعلان خلافته على المسلمين للعالم أجمع، توطئة لإعلان نبوته في آخر الأمر، وقد استنجد أهل مكة والمدينة في عريضتهم بمحمد علي؛ لإنقاذ الحرمين الشريفين وإنقاذهم.

وقد انتهز محمد علي فرصة ورود هذه العريضة ليكتب إلى الباب العالي مرة أخرى في 16 مايو يتنصل من الذهاب إلى الحجاز، ويحاول في الوقت نفسه تطمين الباب العالي على ولائه له، ومنع غضبه عليه، من جراء تسويفه ومماطلته، فقال: إن استنجاد أهل مكة والمدينة به، ورغبته في إنهاء سيطرة الوهابيين وتخليص الحرمين الشريفين، إلى جانب نزوله على إرادة الباب العالي، كل ذلك جعله مصمما على الخروج إلى الحجاز تصميما مبعثه الغيرة والحمية الإسلامية، والإيمان العميق، حتى إنه «تجهز للخروج وصار على وشك إكمال استعداداته، ولكنه لما كان لم يصله خبر صحيح عن تحرك يوسف ضيا باشا، القائد العام للحجاز، أو سليمان باشا والي بغداد، فقد جرؤ هو؛ أي محمد علي على تسطير هذه الرسالة يستفسر عما آلت إليه المأمورية المذكورة وما تم بشأنها، متسائلا عما إذا كانت الدولة قد شغلت من جديد بأمر خاص بعلاقاتها مع الدول الأجنبية، أم حدث التأخير لحكمة ما، ولكنه يجد لزاما عليه أن يبلغ الباب العالي أنه صار متهيئا للزحف، ولا يؤخره سوى انتظار المهمات والأشياء التي كان قد بعث سابقا يرجو إرسالها إليه، ثم انتظار وصول الخبر عن قيام يوسف ضيا وسليمان باشا بزحفهما على الحجاز.» وقد استحث الباشا في ختام رسالته الباب العالي، ليرسل إليه بكل سرعة المهمات التي طلبها، وإصدار أمره إلى يوسف ضيا وسليمان باشا بالزحف دون إمهال والسماح لمحمد علي بالزحف للمبادرة بتطهير الحرمين الشريفين، وتفريج كربة أهلهما.

صفحة غير معروفة