وعندما أصدر الباب العالي أمرا بتثبيت أمين أغا حاكما على الإسكندرية المستقلة في شئونها عن باشوية مصر، وبمنع دخول أي جند إليها عدا أولئك الملتحقين بخدمته، أبدى «مسيت» مخاوفه من أن محمد علي سوف لا يرضى بحرمانه من هذا الميناء الهام، حيث يتعذر عليه بدونه تحقيق استقلاله عن الباب العالي، ثم أخذ يقيم الدليل على صحة ما ذهب إليه بقوله في كتابه إلى «كامدن» في 20 أكتوبر 1805 أن محمد علي قد استقدم من المورة عددا كبيرا من الأرنئود مع أن موارد هذه البلاد لا تكفي للإنفاق على حشد عظيم من الجند، وقد وصل كثيرون من هؤلاء الأرنئود إلى القاهرة متخفين في صور مختلفة، ثم إنه أنشا حرسا خاصا لنفسه يتألف برمته من الفرنسيين، ومع أنه لا وجود لما قد يجعله يخشى شيئا من المماليك على الأقل لمدة خمسة شهور مقبلة فقد شرع يبني مخازن السلاح والذخيرة في قلب القاهرة، وذلك احتياط لم يسبق أن لجأ إليه أحد من أسلافه الباشوات، ويكاد يكون غير معروف للأتراك عموما.
ولكن «مسيت» لم يفز ببغيته من حيث إقصاء محمد علي من الولاية، أو إنشاء الحكومة المملوكية في مصر، فقد أبحر القبطان باشا إلى القسطنطينية (12 أكتوبر)، وبقي الباشا في حكومة القاهرة، وصار لزاما على «مسيت» أن يستأنف مسعاه من جديد لتنحيته عن الولاية إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، ولاستمالة حكومته إلى إرسال قطع من أسطولها إلى مياه الإسكندرية وإقناعها إذا أمكنه بالموافقة على احتلال الإسكندرية تمهيدا لاحتلال مصر بأسرها؟ ثم إنه كان على «مسيت» أن يسدي كل عون لحزب المماليك الذي يترأسه الألفي حليف الإنجليز، واعتمد «مسيت» في مسعاه هذا على نفس الوسائل التي اعتمد عليها سابقا وهي تشويه سمعة محمد علي والطعن على حكومته، ومحاولة إقامة الأدلة والبراهين على أن هذه الحكومة العلوية هي مصدر الفوضى المنتشرة في البلاد والتي تعرض هذه لخطر الغزو الفرنسي، وتجعل احتلال الفرنسيين لها أمرا ميسرا، فضلا عن أن هذه الحكومة إذا بقيت سواء حدث الغزو الفرنسي - وهو ما قطع به «مسيت» - أو لم يحدث - وهو ما لم يأخذ به - فسوف ينهي بقاؤها كل نفوذ للإنجليز، ويقضي على مصالحهم في مصر؛ لأن الباشا مبيع للفرنسيين ويعمل دائبا على رعاية مصالحهم وتمكين نفوذهم.
وفي بداية عام 1806 استهل «مسيت» نشاطه ببسط احتمالات الموقف في مصر إلى حكومته في أول يناير، وقد جاء في رسالته هذه: أن محمد علي الذي تميزت الخطوات التي اتخذها من أجل الوصول إلى ذلك المنصب الرفيع الذي يشغله الآن بجرائم عديدة، والذي كشف في حالات كثيرة عن نواياه من حيث جعله نفسه مستقلا عن الباب العالي، إنما يخضع خضوعا تاما وكليا لنفوذ فرنسا، ولقد كان بناء على نصح وكلاء هذه الدولة له أن حرم محمد علي كل الفرنجة من جميع ما لهم من امتيازات تقريبا، ومن غير احترام لمعاهدات الامتيازات القائمة بين مختلف الدول الأوروبية وبين السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية عليه، ولا بد أن يعزى كذلك إلى نصح الوكلاء الفرنسيين إنشاء تلك الحكومة العاتية التي لا يستطيع المصريون احتمالها طويلا إلا إذا شاءوا إقامة الدليل على أنهم أذل وأتعس شعوب الأرض طرا، ومن جانبي لم أتوان لحظة عن بيان الحقيقة التالية لمحمد علي وهي أن أولئك الذين يسمح لهم بتقديم النصح له إنما غرضهم إحياء روح الانقسام التي سببت كل المساوئ التي نشكو منها، وأن يحملوه على اتخاذ الإجراءات التي تجعله مكروها من الأهلين، ولكن جهودي هذه وأحاديثي معه ذهبت جميعها سدى، فلما أن تبين لي عجزي عن حمله على إنهاء صلاته بفرنسا، وجدت لزاما علي أن أحول بينه وبين الاستيلاء على الإسكندرية، ويسرني أن أخبركم - ويخاطب «مسيت» في رسالته هذه اللورد «ملجريف»
Mulgrave
الذي خلف اللورد «هاروبي» في وزارة الخارجية منذ يناير 1805 في وزارة «بت»
- أني قد نجحت تماما في ذلك، فقد صدر فرمان بناء على طلب تقدم به الأهلون استجابة لالتماسي منهم ذلك يضع الإسكندرية وحصونها تحت حكم ضابط بحري مستقل تماما عن باشا القاهرة، ولقد عرض عليه أخيرا محمد علي عروضا جد مغرية حتى يستميله إلى قبول حامية ألبانية بها، وكاد نهم الحاكم وجشعه يلقيانه في الشرك الذي نصب له، ولكني ما إن أشعرته بأني أعده مسئولا عن كل ما ينجم من مساوئ عن نبذه لأوامر الباب العالي حتى رفض مقترحات محمد علي، ومع ذلك فالإسكندرية لا يحميها شيء يدفع عنها غائلة الغزو الأجنبي، فالقوة التي بها لا تزيد على ثلاثمائة رجل لا يكفون للدفاع عن حصون المنارة، وكفاريللي، وكريتان، والمثلث، والحمامات، ورأس التين، بالإضافة إلى جملة مواقع أخرى أقل أهمية، ويعوز الحاكم المال لدفع مرتبات الجند حتى انتشر التذمر بين رجال الحامية، كما أهملت التحصينات بسبب الحاجة إلى المال، ولا مخازن للذخيرة والمؤن بالإسكندرية، ومع أن هذه مفتاح مصر فإنها لا تحتمل حصارا يضربه عليها جيش أوروبي أكثر من أيام ثلاثة فحسب، وكذلك الحال في سائر مواقع الشاطئ: أبو قير ورشيد ودمياط فقد تسقط جميعها بعد ضربة واحدة، وتعجز الإمبراطورية العثمانية عن الدفاع عن مصر وهي غير قادرة عليه، وإذا وجدت حكومة جلالة ملك بريطانيا من المناسب تدخلها بالقوة في شئون مصر، فإن قوات مسلحة طفيفة سوف تكفي عندئذ لذلك، ومن السهل نيل خدمات المماليك، ثم إن ما يكنه الأهلون من ود نحو بريطانيا يعود بفوائد عديدة عليها ، ومع ذلك فلا تكاد تكون هناك حاجة إلى مساعدة أجنبية؛ لأن رعب العسكر العثماني من الجنود الأوروبيين قد بلغ الدرجة التي قد تجعل أكثرية الأرنئود يبادرون بإخلاء البلاد (مصر) بمجرد أن تصلهم الأخبار منبئة بأن جيشا بريطانيا قد نزل بالإسكندرية.
ذلك إذا كان غرض «مسيت» الجوهري من كل نشاطه: إقصاء محمد علي من الولاية، وإخراج الأرنئود من مصر، وحمل حكومته على تقرير احتلال الإسكندرية تمهيدا لاحتلال البلاد بأسرها، وكانت مناصرته للألفي من الخطوات التي اعتقد «مسيت» ضرورتها لتنفيذ هذه الغاية، فزكاه في تقريره المسهب هذا بأنه قد أعلن وضع نفسه تحت حماية ملك إنجلترة المباشرة، وأنه يلجأ إلى «مسيت» يطلب النصح منه في كل حادث هام أو شان من الشئون يعرض له، ويبدي احتراما للباب العالي، ويسلك في علاقاته معه طريقا يتميز بالحكمة والاعتدال، ويظهر خضوعا تاما لإرادة السلطان سليم وأوامره، ويعزو - كما يفعل «مسيت» نفسه - الحروب الأهلية السائدة في مصر إلى خيانة الأرنئود وطيشهم ورعونتهم.
ولكنه حدث من ناحية أخرى في الشهور الأولى من عام 1806 ما أدخل تعديلا ملحوظا على مظهر العلاقات السائدة بين محمد علي و«مسيت»، ولم يكن مبعث هذا التعديل تحول طرأ على سياسة محمد علي وهو الذي اهتم دائما - وكما أوضحنا سابقا عند الكلام عن إدارته - باستمالة قناصل الدول الأوروبية ووكلائها في مصر إلى جانبه، واهتم على الخصوص بالقنصل الإنجليزي نفسه، حتى يصرفه على الأقل عن مؤازرة المماليك وخصمه العنيد الألفي، بل جاء هذا التعديل من جانب «مسيت» الذي رأى ضرورته بسبب ما جد من حوادث في أوائل هذا العام وما وقع منها بعد ذلك، ولم ينشأ هذا التعديل من تغيير طرأ على البواعث التي شكلت سياسة القنصل الإنجليزي؛ فقد بقيت هذه كما كانت، وكما أوضحناها، وإنما كان مبعثها ما شعر به «مسيت» من ضرورة التظاهر بالود والصداقة لمحمد علي استبقاء لتلك الميول الودية التي أبداها الباشا نحو، وذلك للتمويه عليه وتضليله وتغطية مساعيه في صالح الألفي وضد حكومة محمد علي، فاتسم مسلك «مسيت» أثناء عام 1806 وهو عام الأزمات المريرة التي كادت تطوح بولاية محمد علي، بطابع النفاق والمخاتلة، وكان «مسيت» قد بدأ هذه السياسة ذات الوجهين عقب رحيل القبطان باشا في أكتوبر 1805، فأوضحنا في الفصل السابق كيف أن «مسيت » أمر عزيزا ترجمانه بالقاهرة بألا يضيع دقيقة واحدة في إخطار الباشا بأن هناك مؤامرة تدبر في القاهرة ضد حكومته، وكيف أنه كتب بذلك في 15 نوفمبر يأمر «البطروشي» بأن يكف عن مراسلة البكوات المماليك ويرجو - كما قال - من الآن فصاعدا ألا يحدث ما يورطنا بهذه الصورة.
وأما محمد علي فقد بادر منذ أن وصلته شكاوى «مسيت» بشأن السلف أو الإتاوات التي فرضها على الرعايا والمحميين البريطانيين بتسوية هذه المسألة بشكل يرضي «مسيت»، حتى إن هذا الأخير لم يلبث أن كتب إلى «أربثنوت» في 13 فبراير 1806 أنه يشعر بارتياح عظيم؛ إذ يعلمه أنه قد حصل من الباشا على أمر محول على جمرك الإسكندرية بسداد المبالغ التي أخذها أخيرا من هؤلاء الرعايا والمحميين المقيمين بالقاهرة، وذلك من حصة الباشا في إيرادات هذا الجمرك، بل إنه ما لبث أن كتب إلى «أربثنوت» أيضا في أول مارس أن الباشا قد أجاب جميع مطالبه، وأعطاه أمرا محولا على الجمارك في نظير الأموال التي أخذها، حتى إن هذه الشكوى قد أزيلت نهائيا تقريبا.
ثم دلل محمد علي على وميوله الودية نحو الإنجليز ورغبته في استمالة «مسيت» عندما حضر اللورد «فالنتيا»
صفحة غير معروفة