مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

محمد فؤاد شكري ت. 1392 هجري
137

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

Giorgi

قائد مدفعية الألفي، ولكن كل هذه المحاولات ذهبت عبثا بسبب نيران مدفعية الألفي التي أحدثت ثغرات شاسعة في صفوف الجند وأشاعت بسبب ذلك الفوضى بينهم، فاضطر «طبوز أوغلي» إلى إصدار أمره بالتقهقر، ونجح في الدخول إلى النجيلة والتحصن بها، وفي اليوم التالي (أول أغسطس) عبر النيل، وانسحب بجنده صوب منوف، وهكذا أسفرت هذه المعركة عن انتصار الألفي وخسر جيش طاهر باشا وكتخدا بك ستمائة جندي بين قتيل وأسير، وثلاثة مدافع عدا خيامهم وعتادهم وخيولهم وحملاتهم وجبخانتهم، وكانت هزيمة شنيعة، ولم يخسر الألفي في هذه المعركة سوى قائد مدفعيته، وأحد بكواته الصغار، أحمد بك الهنداوي، وثلاثة أو أربعة من المماليك وجماعة من العربان، وقال «مسيت» وهو يذكر خبر هذه الموقعة للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية في 3 أغسطس 1806 أن الألفي كان من حسن السياسة بحيث إنه أرسل بضعة رءوس، وثمانية عشر أسيرا إلى القبطان باشا الذي ما عتم أن أعلن عند استلامه ذلك أن محمد علي وأتباعه عصاة ثائرون على الباب العالي، وبعث «دروفتي» بخبر هذه الواقعة إلى «تاليران» في 3 أغسطس فقال إن الأخبار قد وصلته منذ يومين بأن الألفي قد ترك حوش عيسى في طريقه إلى القاهرة، والإشاعات رائجة بأنه قد انتصر على جند محمد علي في مكان قريب من قرية النجيلة، وقد أرسل الألفي الرءوس المقطوعة والخيول إلى القبطان باشا واشترك في هذه المعركة الدلاة والأرنئود، ثم عاد فبعث في رسالة تالية في 8 أغسطس بتفصيلات هذه المعركة، ويدل ما ذكره كل من «مسيت» و«دروفتي» عن واقعة النجيلة أنها حدثت قطعا في آخر شهر يوليو من عام 1806.

وعاود الألفي بعد هذا الانتصار ضرب الحصار على دمنهور، وشجعه القبطان باشا على ذلك، وكانت رغبة القبطان - كما ذكر «دروفتي» - أن يجعل الألفي يحتل دمنهور بكل وسيلة، واحتل شاهين بك الألفي الرحمانية، ثم أشار «مسيت» على القبطان باشا بأن ينتهز هو الآخر فرصة هزيمة جند محمد علي، فيحتل رشيد ودمياط ودمنهور.

وأحدث انتشار خبر هزيمة النجيلة في القاهرة ذعرا في النفوس وبلبلة في الأفكار كبيرة، ولم يعرف الباشا نفسه أو القاهريون بالكارثة إلا من الجند الهاربين الذين ظلوا يحضرون إلى القاهرة جملة أيام بعد ذلك، فكانت مفاجأة سيئة للباشا، ولم ينقذ «طبوز أوغلي» من غضبه وانتقامه سوى شجاعته أثناء المعركة، وأما طاهر باشا فقد لجأ إلى المنوفية هاربا من غضب الباشا الذي عظم حنقه عليه، وتوسط كثيرون في الشفاعة له، فأمره بالذهاب إلى رشيد، فتقدم حتى فوة، ولكن الباشا عندما علم بضياع الرحمانية كذلك لم يلبث أن طلب منه التوجه إليها واستخلاصها من يد شاهين بك الألفي فهاجمها بنشاط كبير واستولى عليها، وعاد إلى القاهرة، وحضر إليها من بعده الكثير من العسكر، فأمرهم الباشا بالعودة، وكان إسماعيل أغا الطوبجي كاشف المنوفية من بين الذين جاءوا إلى القاهرة وقد داخل الجميع الخوف من الألفي.

وخشي محمد علي من عواقب هذه الهزيمة السيئة، وبخاصة عندما وجد المماليك والعرب بعدها الميدان حرا طليقا للانتشار في مديرية الجيزة، وقربوا من القاهرة حتى كادوا يكونون على أبوابها، واستطاع جواسيس القبطان باشا والألفي بك أن يندسوا بين القاهريين ويبذرون بذور الفتنة بين الجند وبينهم، وتزايد هياج الخواطر، ومنع الباشا الجند المهزومين وكبراءهم الذين حضروا في المراكب إلى بولاق وهم في أسوأ حال وفيهم مجاريح كثيرة من النزول إلى البر وردهم إلى إمبابة ، فبقوا بها حتى إذا رخى الليل سدوله أذن لهم بدخول القاهرة، وكان قد انضم إليهم كثيرون ممن كان من الجند ببر المنوفية ولم يحضر المعركة لما داخلهم من الخوف، وشدد الباشا الحراسة في القاهرة، وأنشأ لذلك دوريات كثيرة، وصار يتجول بنفسه متخفيا في أحايين كثيرة في أكثر أحياء القاهرة ازدحاما بالسكان لمراقبة نشاط وكلاء العدو السريين، ومعرفة اتجاهات الرأي العام عموما، فأكثر من الركوب والذهاب والمجيء والطواف حول المدينة والشوارع، ويذهب إلى بولاق ومصر القديمة، ويرجع ليلا ونهارا وهو راكب رهوانا تارة أو فرسا أو بغلة ومرتد ببرنس أبيض مثل المغاربة، والعسكر أمامه وخلفه، وقد برهن له ما لاحظه من هياج الخواطر على أن القبطان باشا والألفي قد نجحا في غرضهما لدرجة هددت باحتمال إشعال الثورة في القاهرة، ولما كان القاهريون قد اعتادوا التجمهر كلما أرادوا إعلان سخطهم وتذمرهم في شارع الخليج المنخفض، في غير أوقات الفيضان، وكان هذا الشارع أو المجرى يشق قلب القاهرة، وقد اقترب علاوة على ذلك موعد فتحه بسبب فيضان النهر، وتوقع أن ينتهز المهيجون فرصة الاحتفال بوفاء النيل وتجمهر الناس عند فتح الخليج، فقد رأى الباشا أن يحتاط للأمر بكسر الجسر قبل موعده، فقال الشيخ الجبرتي: «وركب في 14 أغسطس إلى قنطرة السد، وحضر القاضي والسيد عمر النقيب وكسر الجسر بحضرتهم، وجرى الماء في الخليج جريانا ضعيفا بسبب علو أرضه وعدم تنظيفه من الأتربة المتراكمة فيه.»

ثم استطرد الشيخ يقول: «ويقال إنهم فتحوه قبل الوفاء لاشتغال بال الباشا وتطيره وخوفه من حادثة تحدث في مثل يوم هذا الجمع وخصوصا وقد وصل إلى بر الجيزة الكثير من أجناد الألفي، فاطمأن الباشا حينئذ إلى استحالة حدوث اجتماعات شعبية أو تجمهر يخشى خطره، وكان من أسباب زيادة هياج الخواطر ما وقع من مخاصمات بين عرب الحويطات والعيايدة، وتجمع الفريقين حول القاهرة ونشوب القتال بينهما مرات كثيرة، مما أدى إلى انقطاع السبل فتدخل الباشا وانتصر للحويطات، وتوسط عمر مكرم في الصلح، وانتهت الفتنة.»

ولا جدال في أن الألفي والقبطان باشا كان بوسعهما الاستفادة من النصر الذي أحرزه الأول في معركة النجيلة، لو أن الألفي بادر عقبه مباشرة بالزحف على القاهرة ولو أن القبطان باشا أخذ بنصيحة «مسيت» وحاول الاستيلاء على رشيد ودمياط ودمنهور، أو أنه أقبل على معاونة الألفي في حصار دمنهور محاصرة جدية فعالة، فقد كان الخوف من الألفي مستوليا على جند محمد علي، وغادر أكثرهم مراكزهم - كما شاهدنا - فرارا من الالتحام مع الألفي في معركة أخرى كبيرة، وساد هياج الخواطر في القاهرة حتى إن الباشا صار يخشى من وقوع اضطرابات خطيرة أو اشتعال الثورة بها، ولكن الألفي والقبطان باشا فوتا على نفسيهما الفرصة.

ذلك أن الألفي بدلا من الزحف على القاهرة - كما أذيع عقب انتصاره في النجيلة - وذكره «دروفتي» وقتئذ في رسالته إلى حكومته - على نحو ما سبق ذكره - آثر استئناف ضرب الحصار على دمنهور، فقصد إليهما، ثم استقدم إليه من الجيزة عددا من بكوات المماليك الذين أمرهم هو حديثا (وكانوا ستة) لتعزيز قواته، وكان عظيم الأمل في استطاعته إخضاع دمنهور بسهولة، لا سيما بعد انتصاره الأخير في النجيلة، وبسبب ما كان لديه من مدفعية قوية يستخدمها يونانيون وإيطاليون أتى بهم إليهم الوكلاء الإنجليز، ولكن أهل دمنهور أثناء انشغال الألفي بمعركة النجيلة وابتعاده عن مدينتهم، كانوا قد جلبوا إليها المؤن، واستعدوا لمقاومة الحصار إذا ضرب عليهم من جديد، وعقدوا العزم على الاعتماد على أنفسهم إلى النهاية عندما وجدوا أنه من المتعذر على الباشا في ظروفه الراهنة إرسال أية نجدات إليهم بالرغم من تكرر طلبهم لها، وكان نفر من أعيانها قد ذهبوا لمقابلة القبطان باشا قبل أن يستأنف الألفي حصار مدينتهم يرجونه التدخل لصرف الألفي عن عزمه، فأمنهم صالح باشا، ولكن فريقا منهم لم يطمئن لوعده، فبعثوا إلى عمر مكرم ومحمد علي يطلبون النجدة، فوعدوا بها ولكنهم أمروا في الوقت نفسه بالاستمرار على الممانعة وعدم تسليم مدينتهم ومحاربة من يأتي لحربهم، فاستعدوا لذلك، وقال الشيخ الجبرتي: «إن القبطان باشا عندما رفض أعيان دمنهور الذين ذهبوا لمقابلته الإذعان لأوامره وتسليم المدينة إلى الألفي، لم يلبث أن استفتى العلماء في جواز حربهم حتى يذعنوا للطاعة فأفتوه بذلك، فعند ذلك أرسل إلى الألفي يأمره بحربهم فحاصرهم وحاربهم، ولقي الألفي عند استئناف الحصار مقاومة شديدة على يد حاميتها المؤلفة من أربعمائة من الأرنئود والعثمانلي، والتي تعاون معها جميع السكان، واشترك النساء كذلك في المقاومة، وتمكن الدمنهوريون مرات عديدة من رد هجوم الألفي، وصاروا يقومون بخروج مسلح جريء كلما لاح شبح المجاعة في مدينتهم حتى يجلبوا لها المؤن والأغذية، بل واشترك النساء في الالتحامات التي وقعت، وكثيرا ما كن يعتلين أسوار المدينة وتحصيناتها ينشدن الأناشيد في هجاء الألفي ووصفه بالجبن والتهكم من عاداته الشخصية التي تدل على التخنث وعدم الرجولة، وسمع جنده هذه الأناشيد، وضجر الألفي من امتناع المدينة عليه، وأدرك أنه سوف يتعذر عليه إخضاعها قبل حدوث الفيضان (أي حوالي آخر شهر أغسطس) وعندئذ تتوقف العمليات العسكرية بسبب الفيضان ويضطر إلى رفع الحصار عنها.»

وعلى ذلك، فقد أرسل الألفي بعض قواته إلى الرحمانية لسد ترعة الأشرفية وهو المكان الذي تأخذه هذه الترعة عنده مياهها من فرع رشيد، فتمر بسنهور ودمنهور والكريون حيث تبدأ عند النشو البحري تسميتها بترعة الإسكندرية وتمد بالمياه صهاريج الإسكندرية، كما يستقي أهل دمنهور والقرى المنتشرة حولها من ترعة الأشرقية، فأرسل الباشا من فوره بربر باشا الخازندار ومعه عثمان أغا ومعهما عدة كثيرة من العساكر في المراكب فوصلوا إلى خليج الأشرفية من ناحية الرحمانية، واشتبكوا مع قوات الألفي وأجلوهم عنها وفتحوا فم الخليج فجرى فيه الماء، ودخلوا فيه بمراكبهم، ولكن الألفية سدوا الخليج من أعلى عليهم، وحضر شاهين بك الألفي فتمكن من سد فم الخليج بأعدال القطن والمشاق، ثم فتحه الألفية من أسفل فسال الماء في السبخ، ونضب الماء من الخليج، ووقفت السفن على الأرض، وأوقع الألفية بجيش بربر باشا هزيمة كبيرة عند قرية منية القران فانسحبوا مدحورين إلى سنهور، وتحصنوا بها، واستمر القتال بين الفريقين مدة دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، وتمكن الألفي من تحويل المياه إلى بحيرة إدكو ، وقال «دروفتي» وهو يذكر هذه الحوادث في رسالته إلى «تاليران» من الإسكندرية في 20 أغسطس 1806: «إن تحويل المياه إلى بحيرة إدكو - ومن شأنه أن يجعل من إقليم البحيرة صحراء مجدبة على الأقل خلال العام التالي - قد أثار خوف أهل الإسكندرية الذين ما لبثوا أن احتجوا لدى القبطان باشا على هذا العمل الذي منع وصول الماء إلى مدينتهم.» ويقول «دروفتي»: «إن صالح باشا عزا ما يشكون منه ويحتجون عليه إلى عناد أهل دمنهور وعدم طاعتهم، وطلب من الشيخ المسيري الذهاب إليهم لإقناعهم بالتسليم، ولكن هذا رفض القيام بهذه المهمة، فتعين لها ثلاثة من المشايخ كان نصيبهم الفشل.»

ذلك أن الدمنهوريين رفضوا التسليم وأساءوا معاملة هؤلاء المشايخ واحتجزوهم، ثم أفرجوا عن أحدهم على شريطة أن يبذل قصارى جهده لإقناع القبطان باشا بأن يعمل لرد الألفي وحمله على رفع الحصار عن دمنهور في نظير أن يعيد الدمنهوريون إصلاح ترعة الأشرفية وإطلاق المياه لملء صهاريج الإسكندرية على نفقتهم الخاصة، وأبقى الدمنهوريون الشيخين الآخرين كرهائن لديهم، وقال الشيخ: إن كاشف دمنهور قد توفي، وتروج الإشاعة بأن الألفي قد سمه، وقد تعين بدلا منه حسن أغا، والأهالي مصممون على الدفاع عن مدينتهم إلى النهاية، ونصح صالح باشا بإحضار الماء إلى الإسكندرية بوسائل أخرى، ولكنه كان من الواضح - على حد قول «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 12 سبتمبر 1806 - أنه لا يمكن ملء صهاريج الإسكندرية بالماء إلا إذا أبعد الألفي عن دمنهور ورفع حصاره عنها، وأعتقد أن القبطان باشا سوف يضطر إلى إبعاد الألفي حتى لا يقال عنه إنه جاء إلى مصر ليزيد من فداحة الكوارث المنصبة على رءوس أهلها.

صفحة غير معروفة