أما خارج القاهرة، فلم يكن الوباء أقل فتكا، ويقال إن 330 قرية أصبحت خرابا لإصابة سكانها جميعا بذلك الداء. (9-2) «مقصود باشا»
فلما رأى «مقصود باشا» ما ألم بمصر من الدمار، سعى في إصلاح الأحوال جهده، فاستعمل الرفق وألغى الضرائب التي وضعها أسلافه بغير حق وجعل الوراثة إلى الأقربين الشرعيين، مع دفع شيء من التركات إلى الحكومة، وتحرى التعديات تحريا شديدا وشدد في القبض على اللصوص، فقبض على كثيرين منهم، فقتل بعضا، وسجن بعضا، وقاضى آخرين حسب ذنوبهم مع الغرامة، فاستكنث الناس وطابت قلوبهم.
وبينما كان هذا الباشا ساعيا فيما تقدم، ظهرت في الإسكندرية في 20 القعدة من تلك السنة ثورة كدرت الحالة. وذلك أن نحوا من ستمائة من المسيحيين كانوا تحت طائلة القصاص مغلولين في سجون الإسكندرية.
ففي اليوم المذكور فتحوا السجون، والمسلمون في الجوامع يصلون، وطفقوا ينهبون الحوانيت والمخازن والبيوت، ولم يبقوا ولم يذروا. ولما ملئوا جعبة مطامعهم، نزلوا إلى مركب كان بانتظارهم في البحر، فأقلعوا يطلبون الفرار.
ولم يكن ذلك كل ما هدد «مقصود باشا» وحال دون مشاريعه، بل هناك ما هو أدهى وأمر؛ وذلك أن جماعة السناجق تآمروا على عزله في الجمعة 12 رمضان سنة 1045 باجتماع عقدوه في بيت الأمير «رضوان بك» الملقب «بأبي الشوارب».
وسبب ذلك أن «مقصود باشا» كان قد طلب إليهم حينا بإيفاء رواتب الجيش عن شهر رمضان أن يدفعوا الثلث الأول من المال الذي يطلب من الخزينة من الإقطاعات العسكرية التي في أيديهم، فرفضوا بالإجماع وطلبوا عزل بعض الموظفين الذين يعدونهم من أنصار الباشا. فسلم الباشا لهم بما أرادوا، فلم يقتنعوا بذلك. فكتبوا إلى الآستانة يشكون من سوء تصرفه، ووافقهم كثيرون من الأعيان. فكتب إليه الباب العالي رأسا ما مفاده: «إن الحضرة السلطانية لم تعلم أسباب الثورة الجهادية التي انتشبت في «مصر» وتتعجب كيف أن الباشا لم يبلغ الباب العالي خبرها.»
فأجاب الباشا أنه لم يحصل لديه ما يدعى ثورة، وإنما هناك بعض الاختلافات التي يرجوا إصلاحها بالتي هي أحسن؛ ولذلك لم يكن ثمة حاجة إلى اطلاعها.
فطلب إليه الباب العالي أن يتحرى، ويعاقب المعتدين، ويصرف الأمر بما يتراءى له.
ومع ذلك اضطر إلى الإذعان، لكنه أراد الفتك بالأمير «علي بك» والأمير «ماماي بك» والدفتردار «شعبان بك» لعلمه أنهم زعماء تلك الثورة، فأعد لهم كمينا ليقتلوهم في الديوان. وعين لذلك الإثنين في 23 الحجة سنة 1054ه. لكن الدفتردار نزل إلى الديوان وحده في ذلك اليوم، فشاور الباشا عقله بين أن يفتك به وحده أو يخفي ما في ضميره ريثما يفتك بالثلاثة معا، فأقر أخيرا على إرجاء العمل إلى يوم آخر. (9-3) أيوب باشا وغيره
وفي اليوم التالي جاء الفرمان بعزله، وتولية الدفتردار «شعبان بك» قائمقاما يتعاطى الأحكام وقتيا، فشق ذلك على الباشا، لكنه أذعن وسلم مقاليد الأحكام «لشعبان بك»، فكتب السناجق إلى الباب العالي يطلعونه على حقيقة ما حصل في أيام الباشا السابق، ويطلبون إليه الإسراع في إرسال من يخلفه، فأنفذ إليهم «أيوب باشا». وكان قبلا من رجال القصر الشاهاني «المابين».
صفحة غير معروفة