ثم ظن «أويس باشا» أنه إذا جاءهم بالحسنى ربما يلينون، فبعث إلى القضاة أن لا يخالفوا لهم أمرا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وفجورا حتى قبضوا على أولاد الباشا رهن لما يريدون، فاضطر الباشا إلى الإذعان لما أرادوه وأعطاهم ما طلبوه، واستقال من تلك الولاية بعد أن مل من خيبة مساعيه الحميدة فيها.
فتولى مكانه «حافظ أحمد باشا» سنة 999ه وكان حاكما في قبرص، وعلى جانب عظيم من حب العلم وطالبيه، حاذقا، مدربا في أمور الأحكام. وكان رفيقا بالأهلين، ففرق الحسنات على الحجاج الفقراء، وبنى في بولاق وكالتين وعدة بيوت، وخصص ربع دخلها لعمل الخير. وبقي حاكما أربع سنوات. وفي سنة 1003، توفى السلطان «مراد». (5) سلطنة «محمد بن مراد»
من سنة 1003-1012ه أو من 1594-1602م
ولد هذا السلطان سنة 974ه، فتولى الملك وهو في الرابعة والأربعين من عمره. وكان له 19 أخا أمر بخنقهم كما تقدم. ومما يذكر له أن السلاطين تقدموه (مراد وسليم الثاني) كانوا قد تقاعدا عن قيادة الجند في ساحة الوغى، فرأى ذلك قد أضر بسطوة الدولة، فعاد هو إلى تولي تلك القيادة بنفسه، وكان لذلك تأثير كبير في سياسة الجنود وثباتهم، ففتح قلعة «أولو» الحصينة، وكان السلطان «سليمان» قد عجز عن فتحها. (5-1) أعماله في مصر
أما مصر، فولى عليها «قورط باشا» فلم يبق فيها إلا سنة وثمانية أيام، وكان الناس يحبونه للطفه ودعته وتنشيطه لطالبي الأدب، ومساعدته للفقراء ولكل من يلتجئ إليه.
وفي شوال سنة 1004ه، خلفه السيد «محمد باشا» وبقي على الحكومة سنتين، اتبع في أثنائهما خطة أسلافه في تنشيط العلم والأدب، فأعاد بناء الجامع الأزهر، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ، تفرق في الطلبة الفقراء، ورمم المشهد الحسيني، ومع كل ما كان يتوخاه في السعي في حفظ النظام مع الأهلين، لم يمكنه إنقاذهم من ثورة عسكرية، انتشبت في غرة رجب سنة 1006ه في سائر أنحاء القطر المصري.
ثم اجتمع العصاة في القاهرة، وكان السيد «محمد باشا» إذ ذاك في منزله في برية الجيزة، فعاد إلى القاهرة تحف به السناجق وزمرة من الخفراء، فلم يبال العصاة بذلك، بل أطلقوا عليه النار، ولم يتخلص من أيديهم إلا بعد شق الأنفس فسار إلى أحد منازله، فتبعوه وحاصروه هناك ليلا ونهارا، وألحوا عليه أن يسلمهم بعضا من ضباطه، وفي جملتهم «دالي محمد» أحد كبار الأمراء، والأمير الجلاد «الشوباصي» والأمير «خضر» كاشف المنصورة، فطلب إليهم أن يمهلوه ثلاثة أيام.
فلما جاء رسوله، قالوا له: «سيحكم الله بيننا وبين مولاك.» وتفرقوا في المدينة، فظفروا بقاضي العسكر «عبد الرءوف» فأجبروه على القيام بمطالبهم. أما الباشا فاغتنم اشتغالهم بذلك الشأن، وفر إلى منزله ودخل القلعة وأقفل أبوابها وراءه، والتجأ إلى «حسين باشا السكراني» قائد عموم الجيش و«بيري بك » أمير الحج، فحاولا تسكين الثورة، فذهب سعيهما عبثا، علما بأن العصاة قتلوا «محمد بك» و«الدالي محمد» وعلقوا رأسيهما على باب زويلة، ونهبوا بيتهما، وأثخنوا في الناس قتلا ونهبا.
وفي 17 ذي الحجة سنة 1006ه، أبدل السيد «محمد باشا» «بخضر باشا» فحكم ثلاث سنوات و12 يوما، وقد أغضب الأهلين منذ وصوله القاهرة؛ لأنه أمر بقطع الأعطيات والجرايات التي كانت توزع على العلماء والفقراء من الحنطة، ولم يقتصر على الإيقاع بهؤلاء الضعفاء، بل تجاوزهم إلى الضابطة فأحرمهم زادهم، فتجمهروا في 20 رمضان سنة 1009ه، وساروا إلى قاضي العسكر، ثم اتحدوا والقاضي في مقدمتهم، وتوجهوا إلى الديوان يريدون الانتقام، فقتلوا «كخيا باشا» وأمراء آخرين، فخاف الباشا فسلم لهم بما كانوا يطلبونه، وأعاد الأعطيات كما شاءوا وخمدت الثورة وعادت الحياة إلى مجاريها، إلا أن الباشا لم يلبث هنيهة حتى جاءه الأمر بالإقالة، فاستقال. وولي مكانه الوزير «علي باشا السلحدار» وكان محبا للحرب ولذلك كان يكرم الجند على الخصوص، ولكنه كان سفاكا للدماء، فتظلم الناس من قسوته، ولم يكن يخرج في موكبه إلى المدينة أو ضواحيها إلا ويميت على الأقل عشرة أشخاص تحت حوافر جواده، فكان الناس يرتعدون خوفا من ذكر اسمه. ورافق ذلك جوع عظيم، فكثرت الوفيات وعم الخراب، فازداد الرعب حتى أمر الباشا أن تدفن الموتى سرا.
أما هو، فترك القاهرة فرارا من تلك الغائلة واستخلف عليها «بيري بك». وبعد يسير توفي هذا فانتخب السناجق الأمير «عثمان بك» ليقوم مقامه، وبقي هذا حتى عين الباب العالي من يخلف «علي باشا» وكان ذلك التغيير بسبب وفاة السلطان «محمد الثالث» في 16 رجب سنة 1012ه. (6) سلطنة «أحمد بن محمد»
صفحة غير معروفة