وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يعرفون حاجة الأمراء المسلمين إلى رضاهم. فإذا ساءهم أحد منهم، هددوه بالخروج من بغداد. فيضطر إلى استرضائهم؛ لأن خروجهم يغضب العامة، ويجرئهم على خلع الطاعة لتقديسهم شخص الخليفة وتنزيهه عن الخطأ.
ولذلك فلم يكن من سبيل إلى نزع سلطته أو الاعتراض عليها إلا من وجه ديني. فكان الذين يقومون على الخلفاء، يجعلون سلاحهم الدين، فيلبسون الصوف، ويدعون إلى المعروف أو يعلقون في أعناقهم المصاحف أو نحو ذلك مما يحرك عواطف العامة وإذا أراد أحد الخلفاء أن يصلح ما بينه وبين العامة أصلحه بالتقوى. فلما ضمن «الفضل بن سهل» الخلافة للمأمون أوصاه بإظهار الورع والدين ليستميل القواد.
ولما رأى «أبو مسلم الخراساني» أهل اليمن في مكة قال: «أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان، غزير الدمعة» يريد تحريك عواطفهم الدينية بالوعظ والبكاء. فلم يكن للمماليك الإسلامية بد من خليفة تبايعه ليثبت ملكها.
وقد يستاء بعض الأمراء المستقلين من خليفة بغداد فيكظم ولا يخلع بيعته، إلا إذا رأى خليفة آخر يبايعه. فلما قامت الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر، خلعت كثير من البلاد بيعة خليفة بغداد، وبايعت للفاطميين في القاهرة. ولما تغلب صلاح الدين الأيوبي على مصر، وذهبت الدولة الفاطمية منها، فأول شيء فعله أنه خطب بجامع القاهرة للخليفة العباسي في بغداد. وطلب المنشور منه والخلع عليه.
وكانت الخلافة العباسية بغاية الانحطاط والضعف وهو في غنى عن بيعتها، ولكنه علم أنه إذا لم يبايع الخليفة فلا يرضى الناس.
وكذلك فعل السلاطين المماليك، الذين ملكوا مصر بعد الدولة الأيوبية، فإنهم بايعوا للعباسيين، وكانت الخلع تأتيهم من بغداد إلى القاهرة بتثبيت سلطتهم، فلما سطا التتر على بغداد وفتحوها سنة 656ه، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، توقف شأن الخلافة، فاضطربت أحوال مصر، وبذل سلاطينها جهدهم في إيجاد خليفة يبايعونه ولو أعوز خليفة ولم يجدوه ربما اختلقوا واحدا ليحكموا العامة به، على أنهم ما زالوا يبحثون عن بقية الخلفاء العباسيين الذين كانوا في بغداد حتى ظفروا بالهاربين منهم فاستقدموهم إلى القاهرة، واحتفلوا بهم احتفالا عظيما، وفرضوا لهم الرواتب كما تقدم، وبالغوا في احترامهم وإكرامهم مع علمهم أن أولئك الخلفاء لا يغنون عنهم شيئا.
ولكنهم خافوا اختلال دولتهم بدونهم، وظل ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالأطراف البعيدة، يبايعون للخليفة العباسي في القاهرة، ويطلبون التقليد منه أو المنشور لإثبات سلطتهم على يد السلاطين المماليك، فما الذي بعث لأولئك الملوك على طلب التقليد من خليفة طريد شريد لا ينفع ولا يشفع لولا ما يتوقعونه من أثر ذلك في أذهان العامة؟
ولا ننكر أن بعضهم كان يطلب بيعة الخليفة تدينا ولكن الأكثرين كانوا يطلبونها لاستصلاح العامة بها. (1-2) الخلافة في غير قريش
مما يستحق النظر والاعتبار فيما نحن فيه، أن ملوك المسلمين غير العرب على اختلاف مواطنهم وأجناسهم ولغاتهم ودولهم من الفرس والأتراك والأكراد والبربر والشركس وغيرهم، مع ما بلغوا إليه من سعة الملك وعز السلطان ومع حاجاتهم إلى السيادة الدينية لتستقيم دولتهم، وتجتمع الرعية على طاعتهم، ولم يخطر لأحد منهم أن يطلب الخلافة لنفسه، قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني بعد تضعضعه بفتوح المغول، ولا ادعاها أحد من العرب غير قريش، وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة، السلطان سليم الذي نحن في صدده ولا تزال الخلافة في دولته إلى الآن.
على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن من الأمراء المسلمين أو القواد غير العرب، كانوا إذا طمعوا بالسيادة الدينية أو الخلافة، انتحلوا لأنفسهم نسبا في قريش كما فعل «أبو مسلم الخراساني» لما رأى من نفسه القوة على إنشاء الدولة. وربما طمع بالخلافة، وانتحل لنفسه نسبا في بني العباس فقال إنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس.
صفحة غير معروفة