ودخل معهم الأمراء خاير بك، وقاضي القضاة الشافعية وغيره ممن كان في أسر السلطان سليم في حين مات السلطان الغوري. دخل الخليفة المذكور من باب النصر وقدامه المشاعلية تنادي الناس بالأمان والاطمئنان، والبيع والشراء ، والأخذ والعطاء، وأن العساكر العثمانية لا يشوشون على أحد من الرعية، وأنه قد أغلق باب الظلم وفتح باب العدل، وأن كل من عنده مملوك شركسي، ولا يدل عليه، ثم ظهر عنده يشنق، وادعوا للملك المظفر سليم شاه بالنصر. فضج الناس بالدعاء، ولكن لم يلتفت أحد من العثمانية لهذه المناداة، وأخذوا ينهبون بيوت أولاد الناس بحجة أنهم يفتشون عن المماليك الشراكسة، فاستمر النهب في بيوت الأمراء، وأهل البلدة ثلاثة أيام متوالية، لا يتركون جمالا ولا بغالا ولا قماشا.
وفي يوم الجمعة، خطب باسم السلطان سليم على منابر القاهرة، ومصر القديمة، وهذا نص الخطبة:
وانصر اللهم السلطان ابن السلطان، ملك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وسلطان العراقيين، وخادم الحرمين الشريفين الملك المظفر سليم شاه، اللهم انصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا، يا مالك الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.
وبالغ العثمانيون في مطاردة الشراكسة ... حتى كانوا يدورون في الحارات والأزقة والأسواق. وكل من رأوه من أولاد الناس لابسا زنطا أحمر وتخفيفة، وهو لباس المماليك قالوا له أنت شركسي، وقطعوا رأسه، فلبس الناس العمائم، حتى أولاد الأمراء والسلاطين، وأبطلوا لبس الزنط والتخافيف في مصر. على أن ذلك لم يمنع تعديهم، فكانوا يتهمون الناس أنهم من الشراكسة، ثم يقولون لهم: افتدوا أنفسكم بالمال. فيفعلون.
وفي يوم الإثنين، ثالث المحرم سنة 923ه دخل السلطان سليم القاهرة. وبين يديه الخليفة المتوكل، والقضاة، وشق المدينة في موكب حافل، وقدامه الجنائب المسومة الكثيرة، وحوله العساكر المتزاحمة بين مشاة وفرسان، حتى ضاقت بهم الشوارع، وما زال سائرا في المدينة حتى دخل من باب زويلة، ثم عرج من تحت الربع، وتوجه من هناك إلى بولاق، ونزل في المعسكر الذي نصبه تحت الرصيف، فلما شق المدينة، ارتفعت الأصوات بالدعاء في الناس قاطبة، وقد وصفه أحد المعاصرين الذين شاهدوه في ذلك اليوم، فقال: إنه دري اللون، حليق الذقن وافر الأنف، واسع العينين، قصير القامة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفيه خفة وهرج، كثير التلفت إذا ركب.
أما «طومان باي» فإنه ثبت في تلك الحروب ثبات الأبطال، لكنه اضطر أخيرا للفرار في 8 محرم، فذهب إلى الصعيد، واتفق مع بعض قبائل العرب هناك على الدفاع عن الوطن، ومصادرة ما يحمل العثمانيين من الغلال ونحوها. فالتف حوله جماعة كبيرة ممن خافه السلطان سليم، ثم جرت المخابرة بشأن الصلح والأمان ولم يتم شيء.
وأتى «طومان باي» برجاله إلى الجيزة، فخرج إليهم السلطان سليم، فحدثت معركة كالتي حدثت ببركة الحاج، وكان الفوز أولا ل «طومان باي» ورجاله.
ثم تكاثر العثمانيون وأكثروا من رمي الرصاص فانكسر المماليك وانهزم «طومان باي» فأمعن السلطان سليم فتكا فيمن وقع في أيديه منهم، ذكر «ابن إياس» أن العثمانيين، قطعوا رءوس المماليك الشراكسة وجماعة من العربان الذين كانوا مع «طومان باي». فلما تكامل قطع الرءوس، أحضروا مراكب نصبوا فيها مداري من خشب، وعلقوا عليها تلك الرءوس وحملتها النواتية على أكتافهم ولاقتهم الطبول والزمور، وزينوا القاهرة لذلك.
وبعث السلطان سليم يتعقب «طومان باي» حتى تمكن منه بالحيلة، فأتوا به مغلولا إلى ما بين يدي السلطان، فنظر إليه، فإذا هو في حالة الغضب، وقد علا وجهه القنوط لما حل ببلاده من الذل فتحركت عواطف السلطان سليم، فأمر أن تحل قيوده، وبأن يؤذن له بالحضور في مجتمعات كان يعقدها السلطان سليم للمداولة في أمر البلاد، فكان يسأله مسائل كثيرة تتعلق بأحوال البلاد الاقتصادية والسياسية والإدارية ظلوا على ذلك عشرة أيام. وفي اليوم العاشر، رأى السلطان سليم أنه لم يعد في حاجة إلى مشورة «طومان باي» فأمر بشنقه في 19 ربيع أول سنة 923 فعلقوه تحت رواق باب زويلة بكلاب من حديد، كان باقيا هناك إلى عهد غير بعيد.
وبقتل «طومان باي» انتهت دولة المماليك الشراكسة، أو البرجية. بعد أن تسلطنوا نحو 139 سنة وأصبحت مصر إيالة عثمانية. والسلطان سليم أول من خطب على منابرها من العثمانيين، ولا تزال عثمانية إلى الآن.
صفحة غير معروفة