هو ابن السلطان بايزيد الثاني وقد تقدم في ترجمة قنسو الغوري أنه تخاصم مع أخيه كركود وفر هذا إلى مصر واحتمى بسلطانها قنصو. وسبب هذا الخصام أنه كان لبايزيد الثاني (سنة 886ه-918ه) ثمانية أولاد ذكور، توفي منهم خمسة وبقي ثلاثة، وهم كركود وأحمد وسليم. وكان كركود يحب العلم ومجالس العلماء، فمقته الإنكشارية لأنهم أهل حرب لا رزق لهم إلا بها، وكان أحمد محبوبا لدى أعيان الدولة والأمراء، أما سليم فكان رجل حرب وبطش فأحبه الإنكشارية ونصروه.
ولحظ والدهم اختلافهم في المشارب والمناقب فخاف تنازعهم ففرق بينهم، فعين كركود واليا على إحدى الولايات البعيدة ، وولى أحمد على أماسيا وسليما على طرابزون. وكان لسليم ولد اسمه سليمان (صار بعد ذلك سليمان القانوني) فعينه جده بايازيد واليا على «كافا» من بلاد القرم، فلم يرض سليم بمنصبه في طرابزون فتركه وسافر إلى كافا، وبعث إليه أبيه يطلب إليه أن يعينه على ولاية في أوربا. فلم يقبل السلطان بايازيد، وأصر على بقائه في طرابزون، فجاهر سليم بالعصيان على والده، وزحف بجيش جمعه من قبائل التتر إلى بلاد الروملي، فبعث والده جيشا لإرهابه، فلم يتهيب، فلم ير بايازيد بدا من مراضاته حقنا للدماء، فعينه واليا على مدينتي سمندرية وودين في بلاد البلغار سنة 1511.
فلما علم كركود بنجاح أخيه أحب أن يقتدي به، فانتقل إلى ولاية صاروخان، وتولاها بدون أمر أبيه، ليكون قريبا من القسطنطينية عند الحاجة، وخرج سليم على أدرنة وأعلن نفسه سلطانا عليها، فجرد والده عليه جندا لمحاربته، وجندا لمحاربة أخيه كركود في آسيا. ففر سليم إلى بلاد القرم، وفر كركود أيضا، فأخذ الإنكشارية يناصرون سليما، وألجئوا السلطان إلى العفو عنه، وإعادته إلى ولايته في سمندرية، فلاقاه الإنكشارية في أثناء الطريق وحملوه إلى القسطنطينية، وأدخلوه سراي السلطان باحتفال وطلبوا إلى بايازيد أن يتنازل عن الملك لابنه هذا فأطاع وترك القسطنطينية ليقضي باقي حياته في ديموتيقا، فتوفي في الطريق ويظن أن ابنه سليمان دس له السم خوفا منه.
تولى السلطان سليم العرش العثماني سنة 918ه بقوة الإنكشارية فوزع فيهم الجوائز، وعين ابنه سليمان حاكما على القسطنطينية وخرج بجيوشه على أخويه وأولاده حتى يهدأ باله ويستقر له الملك بلا منازع، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقرة، فلم يقدر عليه هناك، فذهب إلى «بورصة» فقبض فيها على خمسة من أولاد إخوته، وأمر بقتلهم. ثم شخص إلى «صاروخان» مقر أخيه «كركود» ففر «كركود» إلى الجبال. وما زال يطارده حتى قبض عليه وعاد إلى أحمد، فحاربه، فانهزم فطارده حتى قتل سنة 919ه.
فاطمأن بال سليم من جهته الداخلية؛ إذ استقر له الملك بذهاب منازعيه، ومال إلى المهادنة. فعاد إلى أدرنة وكان في انتظاره هناك سفراء البندقية والمجر وموسكو ومصر. فأبرم معهم عهدا على المهادنة لمدة طويلة؛ لأن مطامعه كانت متجهة إلى بلاد الفرس، لمحاربة الشيعة. وكان الفرس في عهد الدولة الصفوية، وقد أسسها شاه إسماعيل سنة 907ه. وفتح شروان واستقر في تبريز، فجعلها عاصمة مملكته، ثم فتح العراق وخراسان وما وراءها إلى هرات. فغلب على حكامها التيموريين التتر. فامتدت سلطته من نهر الأكسوس إلى خارج فارس؛ أي من أفغانستان إلى الفرات ، فخافه العثمانيون، وهاجت فتوحه مطامعهم وتنبهت الضغائن بين السنة والشيعة، والعثمانيون حماة السنة كما كان الصفويون حماة الشيعة.
وكان إسماعيل شاه، لما تمرد سليم وأخوه أحمد على أبيهما، أخذ يناصر أحمد في عصيانه على أبيه، ثم على أخيه سليم. وكتب من الجهة الأخرى إلى مصر يطلب محالفتها على العثمانيين عند الحاجة، فبلغ ذلك إلى السلطان سليم، وهو رجل حرب وبطش. فهاجت مطامعه، ولم يعد يقنع بغير الفتح والتغلب على الدولتين جميعا، وأمر بالقبض على من كان في شيعته في حدود مملكته، وعددهم نحو 40000 وقتلهم، وأعلن شاه إسماعيل بالحرب وخرج بجيوشه من أدرنة في 22 محرم سنة 920 (19 مارس 1514م) وعددهم 40000 ماش و80000 راكب. وجرت بينه وبين الشاه إسماعيل في أثناء مسيره مكاتبات محشوة بالتهديد والوعيد. وجعل السلطان سليم وجهته مدينة تبريز عاصمة الشاه المذكور.
وكانت الجنود الفارسية في أثناء الطريق تتقهقر أمام العثمانيين خداعا حتى يتبعوهم، ثم ينقضون عليهم. حتى إذا وصلوا إلى أرباص تبريز؛ جرت واقعة انتصرت فيها الجنود العثمانية بقيادة «سنان باشا»، وفر الشاه بمن بقي من جنده وخلف وراءه كثيرين من قواده وأهله في الأسر، وكان من جملة الأسرى إحدى زوجاته، فزوجها السلطان سليم من بعض كتابه انتقاما من الشاه. وفتحت تبريز أبوابها، فدخلها الفاتح العثماني ظافرا واستولى على خزائنها وذخائرها وأرسلها إلى القسطنطينية وفي جملتها عرش مرصع بالماس والياقوت ومطرز باللؤلؤ هو الآن في جملة ذخائر آل عثمان في سراي طوب قبو بالآستانة، وقد شاهدته ووضعته في مجلة الهلال السنة 18.
وبعد ثمانية أيام اضطر لإخلاء تبريز لقلة المئونة اللازمة لجنده وأخذ في مطاردة الشاه، ففتح ديار بكر وغيرها، وأراد الإيغال في بلاد الفرس، فتوقف الإنكشارية عن ذلك، وقد ملوا الحرب، وتعبوا من الأسفار فعاد إلى أماسيا للاستراحة في أثناء الشتاء والاستعداد للحرب في أوائل الربيع.
فلما كان الربيع، استأنف الحملة، ففتح بعض البلاد ورجع إلى القسطنطينية، وخلف بعض قواده لإتمام الفتح. وحال وصوله إلى القسطنطينية؛ حاسب قواد الإنكشارية على توقفهم عن السير في حملته المشار إليها، وقتل عددا كبيرا منهم ، وقتل قاضي العسكر جعفر جلبي؛ لأنه كان من أكبر المسببين لذلك التمرد. وخاف تمردهم ثانية، فغير نظام تعيين الرئيس، وكانوا يعينونه من أكبر قوادهم، فجعل لنفسه الحق في تعيين ذلك الرئيس.
وأما جنوده فإنها واصلت الحرب، ففتحت ماردين وأورفه والرقة والموصل، فتم بذلك الفتح ولاية ديار بكر، وخضعت قبائل الأكراد له. ولما تأتى له ذلك، فكر في فتح مصر انتقاما من قنسو الغوري على تحالفه مع الشاه إسماعيل وجرت معركة مرج دابق، وقتل قنسو الغوري، كما تقدم، فحمل على مصر. (4) كيف كانت مصر لما جاءها السلطان سليم؟
صفحة غير معروفة