وتولى الملك بعده اثنان من أولاده الواحد بعد الآخر، ثم تنازع السيادة مماليك آخرون، يطول بنا ذكر عدد حكمهم، أهمهم فيما نحن فيه؛ الملك الأشرف قايتباي من سنة 872-901ه.
تولى الملك والمملكة المصرية في اضطراب، وفي أيامه اقتضت الأحوال أن تتداخل الدولة العثمانية بمصر، وتعاديها. وذلك أن السلطان محمد الثاني حارب ملك الفرس «أوزون» وتغلب عليه. وكان بين المصريين والفرس تحالف، ثم ما لبث «قايت بك» أن سمع بعزم السلطان المذكور على فتح «سوريا» سنة 885ه. ولكن لم يخرج من بر الأناضول حتى داهمته المنية في مدينة «طيفور جابر»، وتخاصم ابناه «بايازيد»، و«جم» أو «زيزم» على الملك، فشغلا عن الفتح، فاغتنم قايت باي تلك الفرصة وانسحب بجيشه إلى مصر.
وما زال الخصام يتعاظم بين ابني محمد حتى كانت بينهم واقعة «يكي شهر» فانهزم جم حتى أتى مصر، والتجأ إلى قايت بك، فأكرم وفادته، ثم علم أن ذلك الإكرام يهيج حاسة الانتقام في بايازيد «الثاني» فقال في نفسه: «إذا كان لا بد من محاربة العثمانيين فلنكن مهاجمين أولى من أن نكون مدافعين»، فجعل يناوئ الأتراك ويقطع السبل على قوافلهم الناقلة الحجاج إلى الحرمين حتى قبض على وفد هندي مرسل في مهمة سياسية إلى بايازيد. واستولى على «أدنة» و«ترسوس» وكانتا في حوزة العثمانيين.
أما بايازيد فكان واقفا بالمرصاد ينتحل حجة لمهاجمة المصريين فجاءت تلك الإجراءات طينة على عجينة، إلا أنه رأى أن يأتيهم من باب الحزم فأنفذ إليهم رسلا في طلب التعويض عما سببوه من الخسائر والأضرار. فأرجع «قايت باي» الرسل وبعث يهاجم الجيوش العثمانية، فقاومته أشد المقاومة، وأرجعت جيشه إلى ملاطية، فأنجدهم «قايت باي» بخمسة آلاف رجل فعادوا إلى العثمانيين وهم في مضايق الجبال، فهجموا عليهم بغتة، وذبحوا منهم عددا كبيرا، وفر الباقون وتحصنوا في «ترسوس» و«أدنة»، فأنفذ جيشا كبيرا تحت قيادة صهره أحمد، وهو ابن أمير البوسنة، فلما وصل إلى معسكر الأزبكي، اقتتل الجيشان فهجم أحمد هجمة قوية، لكن رجاله لم يستطيعوا الثبات، ففازت الجيوش المصرية، وأسر أحمد بعد أن جاهد جهادا حسنا، فعاد الأزبكي بأسيره إلى مصر ظافرا، فبنى جامعه المشهور المعروف بجامع الأزبكية، وكانت في أيامه بركة يتجمع إليها الماء أيام الفيضان وهي التي صارت الآن حديقة الأزبكية.
فلما بلغ بايازيد ما كان من انكسار جيوشه، استشاط غضبا، وجند جندا كبيرا جعله تحت قيادة «علي باشا» لمحاربة المصريين، فسارت تلك الحملة من الآستانة فعبرت البوسفور في 3 ربيع آخر سنة 893، ونزلت قرمان، فاتصل خبرها بقايت بك، فأوجس خيفة فعمد إلى المصالحة، فأنفذ إلى بايزيد صهره أحمد واسطة لعقد شروط الصلح، فرفض بايازيد ذلك رفضا باتا، وسار حتى التقى بالمصريين في «أدنة» و«ترسوس» فحاربهم وفاز عليهم، واسترجع المدينتين الواحدة بعد الأخرى، بعد أن أهدر دماء غزيرة ثم سار إلى أرمينيا وأخضعها، وحاصر عاصمتها، فافتتحها بعد أن دافعت دفاعا قويا، وأسر حاكمها، وأرسله بعد ذلك إلى مصر بدلا من الأمير أحمد، فبعث قايت باي الأزبكي ثانية لدفع العثمانيين فواقعهم في «ترسوس»، فغلبوه أولا ثم عاد إليهم وفاز بهم وأعادهم القهقرى وعاد إلى القاهرة ظافرا، فخلع عليه قايت باي، ثم رأى أن يغتنم كونه ظافرا لمصالحة العثمانيين، فبعث إلى بايزيد في ذلك فأجابه وطلب إليه أن يتنازل له عن «ترسوس» و«أدنة» وأنه إذا لم يفعل يدعو الناس إلى الجهاد، فيجتمع تحت لوائه كل من يدعو لآل عثمان، فيجيء مصر ويفتحها فتحا مبينا. فخاف قايت بك وتنازل عن المدينتين اكتفاء بأهون الشرين وكان ذلك سنة 896ه. فقايت بك أول من حارب العثمانيين. وكان عادلا محبوبا، وما زال العقلاء الذين عاصروا سائر دولة المماليك يضربون المثل بأيامه، ويطلبون الرجوع إلى مثلها. (2) حرب أخرى مع العثمانيين: قنسو الغوري
خلف قايتباي على مصر خمسة سلاطين لم يطل حكمهم أكثر من خمس سنين لاضطراب الأحوال فجاء بعدهم السلطان قنسو الغوري حكم من سنة 906-922ه وكان مخلصا في الحكم وهو صاحب الجامع المعروف باسمه في القاهرة.
ويهمنا هنا أن في أيامه حدث اختلاف آخر بين العثمانيين والمصريين. وذلك أن كركود أخا السلطان سليم بايازيد جاء مصر سنة 918ه، فارا من أخيه، وكانا قد تخاصما على الملك كما حصل بجم وبايازيد قبلا، فرحب قنسو الغوري به ترحابا عظيما وجهزه بعشرين بارجة بحرية لافتتاح القسطنطينية، فذهبت العمارة غنيمة لمراكب «أورشليم» في البحر المتوسط ولم تكن النتيجة إلا إثارة غضب السلطان سليم على مصر فجهز إليها، وابتدأ بفتح الحدود السورية وأرسل إلى مصر رسائل التهديد، فاتحد الغوري مع ملك الفرس إسماعيل شاه على قهر العثمانيين، وكان الفرس في حرب معهم وسنعود إلى تفصيل ذلك إلا أن الجيوش العثمانية لم تبال بكثرة العدد فشتتت الجيشين وأي تشتيت! فعمد قنسو الغوري إلى مخابرة العثمانيين بأمر الصلح على أي وجه كان، وبعث إلى السلطان سليم بذلك فسارت الرسل إلى السلطان سليم فخروا ساجدين وخاطبوه بأمر الصلح، فقال لهم وقد استشاط غيظا: «لقد فات الأوان. انهضوا وارجعوا إلى سلطانكم وقولوا له، إن الرجل لا تعثر بحجر واحد مرتين، وها إني ذاهب إلى القاهرة فيستعد للدفاع إن كان له أهلا.»
فعادوا وأخبروا بما كان، فجمع قنسو رجاله وزحف لملاقاة الجيوش العثمانية فالتقى بها في «مرج دابق» قرب حلب فانتشبت الحرب هناك وأظهر الغوري بسالة وثباتا عظيمين حتى أوشكت رجاله أن تستظهر، فمنعتها مدافع العثمانيين من ذلك ولم يكن للمصريين مثل ذلك السلاح فتشوش نظامهم ووقع الرعب في قلوبهم، وانحاز قائدا جناحيهم إلى العثمانيين، وكان الغوري قائدا لقلب الجيش فاضطر إلى الفرار، فحول شكيمة جواده، فسقط عنه لشدة الازدحام وقتل تحت أرجل الخيل سنة 922ه. (2-1) آخر السلاطين المماليك
فخلفه الملك «الأشرف طومان باي» ابن أخيه، وفي أيامه فتح السلطان سليم مصر وصارت عثمانية، ولم يتم طومان باي سنة في حكمه. وقبل التقدم إلى تفصيل ذلك الفتح، نأتي بفذلكة عن تاريخ الدولة العثمانية إلى سنة الفتح فنقول: (3) الدولة العثمانية
هي دولة تركية لكنها تختلف عن دولة المماليك التركية (الأولى) المتقدم ذكرها أن أصحابها لم يكونوا من المماليك بل هم قوم أحرار أهل سيادة، جاءوا فاتحين. وقد نشأت في الإسلام عدة دول تركية منها أربع دول نشأت وانقرضت في أيام العباسيين قبل سقوط بغداد، وكان مؤسسوها في الغالب عمالا للعباسيين في بعض الولايات ثم استقلوا، وهي: الدولة الطولونية والأيلكية والإخشيدية والغزنوية، وليس في الدول التركية دولة كان أصحابها أهل سيادة في بلادهم وجاءوا المملكة الإسلامية فاتحين إلا السلاجقة والعثمانيين.
صفحة غير معروفة