وصار تجنيد الأتراك من ذلك الحين قاعدة في الدول الإسلامية. ومن جملتها الدولة الأيوبية بمصر، فإن الملك الصالح ابن الكامل (637-647ه) استكثر من اقتنائهم حتى جعل منهم بطانته وأمراء دولته والمحيطين بدهليزه وصارت مناصب الدولة إليهم، وأمنع حصون البلاد في قبضتهم قد اتخذوها مستقرا لهم حتى إذا ضاقت ذرعا من الإحاطة بهم ابتنوا - بأمر الملك الصالح - قصورا عظيمة متقنة البناء منيعة الجانب من جزيرة الروضة بضواحي القاهرة قرب المقياس. وقد زادها مركزها الطبيعي مناعة وجمالا، لأن النيل يتفرع هناك إلى فرعين، وكان يدعى نقطة تفرعه بالبحر؛ لعظم اتساعه، فسمي هؤلاء المماليك بالمماليك البحرية، ومنها اسم دولتهم تمييزا لها عن دولة المماليك الشراكسة، الآتي ذكرها.
وكانت سطوة المماليك البحرية تنتشر يوما فيوما إلى أن طمعوا بخلع السلطان وتولي الملك مكانه. فلما تولى الملك المعظم آخر سلاطين بني أيوب، وكان على ما كان عليه من الاستبداد، أنفت نفوسهم من أعماله فسعوا فيه إلى أن قتلوه.
ولما قتل الملك المعظم اختلفت الأحزاب فيمن يبايعون بعده وكل فئة تحاول استبقاء الحكم في يدها وتعاظم الخصام فتداركت الأمر شجرة الدر، وهي محظية كانت لها منزلة عند الملك المعظم وسائر رجال الدولة فرأت حزب المماليك أعز جانبا من الجميع. وكانت قبلا قد تواطأت مع أيبك عز الدين وهو من أعظم الأمراء المماليك نفوذا وبينهما علاقات ودية من أيام الملك الصالح، فتمكنت بهذه الصداقة من مبايعة الجميع لها مما لم يسبق له مثيل في الإسلام لكنها لم تستطع استبقاء الحكم في قبضتها أكثر من سنة فخلعها المماليك وولوا أيبك عز الدين المذكور سنة 648 وله منازعون ومناظرون. وزاد الأمر إشكالا تعدي الصليبيين على دمياط في تلك الأثناء.
وما زالت السيادة تنتقل من واحد إلى آخر منهم حتى أفضت إلى الظاهر بيبرس البندقداري أعظم سلاطينهم (658-676ه).
الملك الظاهر بيبرس
وكان الملك الظاهر ملكا حازما، شديد البطش كثير الغزوات، خفيف الركاب يحب السفر، وكان مشهورا بالفروسية في الحرب. وله إقدام وعزم على القتال، وثبات عند التقاء الجيوش حتى لقبوه بأبي الفتوح. وكان شعاره الأسد، إشارة إلى شجاعته.
ومن أعماله المأثورة أنه عمر الحرم النبوي، وقبة الصخرة في بيت المقدس. وزاد في أوقاف الخليل، وعمر قناطر شبرامنت بالجيزة وسور الإسكندرية ومنار رشيد. وردم فم بحر دمياط ووعر طريقه، وعمر الشنواني، وعمر قلعة دمشق وقلاعا عديدة في أنحاء سورية، وعمر المدرسة بين القصرين في القاهرة والجامع الكبير بالحسينية وهو المعروف الآن بجامع الظاهر، وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه. وبنى هناك قرية سماها الظاهرية، وحفر بحر أشمون طناح، وجدد الجامع الأزهر بالقاهرة وأعاد إليه الخطبة، وعمر بلد السعيدية من الشرقية بمصر، وبنى القصر الأبلق في دمشق، وغير ذلك من الآثار الباقية إلى اليوم.
واشتهر الملك الظاهر بحروبه مع الصليبيين، فاستولى على بلاد كثيرة من سوريا وفلسطين وحلب، وفتح بلاد النوبة وبرقة.
وفي أيامه جاء العباسيون إلى مصر على أثر فرارهم من بغداد بعد سقوطها بأيدي التتر وقتل الخليفة المستعصم سنة 656ه، فجاء منهم إلى مصر الإمام أحمد بن الخليفة الظاهر بأمر الله. فوصل مصر سنة 659ه. فاستقبله الملك الظاهر أحسن استقبال، وبايعه، وأثبت نسبه في مجلس من القضاة والعلماء، وأراد أن يسترجع لهم بغداد، فأرسل جندا لاستخراجها من سلطة التتر فلم يفلح، في حديث يطول شرحه، لكنه أفلح في جعل مصر مقر الخلفاء العباسيين، وصاروا لا يثبت سلطان منهم على كرسي مصر إلا إذا بايعه الخليفة العباسي بما له من السيادة الدينية.
بقية دولة المماليك الأولى أو البحرية
صفحة غير معروفة