ولكن المصريين قضوا على هذا الهناء، على هذه الجنة التي تذكرها الأساطير القديمة، وعلموا الناس الحضارة فعلموهم القسوة والرق والحرب، وهذا الذهب الذي لا تزال أمم كثيرة تتعامل على قاعدته لم يكتسب قيمته إلا من أساطيرهم الدينية، وأزمة العالم الحاضرة تعزى في معظمها إلى التعامل بالذهب.
أنشأ المصريون الحضارة فعرفوا بذلك مبدأ التضحية البشرية لتوفير المحصولات الزراعية والصحة، وقتلوا ملوكهم الأولين من أجل هاتين الغايتين؛ فكان هذا القتل تدريبا لهم على القسوة.
ثم خرجوا من مصر في البحث عن المعادن فجلبوا الرقيق وأنشأوا في العالم أسوأ عادة عرفها الإنسان وهي استعباد أخيه، ثم أدمنوا التفكير في العالم الآخر وفي إطالة العمر حتى ألفوا للعالم كشكولا من الأساطير والجن والعفاريت والسحر والرقى والتعاويذ، وقد كانت هذه الأشياء ذريعة حسنة للاكتشاف العلمي فعرفت منها مبادئ الكيمياء والفلك والجغرافيا والحساب، ولكنها كانت أيضا سببا لخلافات مذهبية بعثت الحروب والدمار بين الأمم.
كل هذا يجب أن يقال عن الحضارة عندما نقابلها بالبداوة الأولى، ولكن هذا الطور من الحضارة طور القسوة والقتل والأساطير والرق قد مضى أو أوشك.
ونحن مقبلون على طور آخر يقول بالسلم والعلم والحرية والمساواة، ولولا الطور الأول لما كان هذا الطور الثاني، فإذا كان المصريون قد أساءوا إلى العالم بإخراجه من البداوة في زعم روسو وأمثال روسو فإنهم هم السلم الذي ارتقى عليه الإنسان إلى هذا الطور الجديد أي الحضارة الحديثة. •••
وكذلك الأساطير التي فشت في العالم وما تعرفه العامة عن الجن والعفاريت والسحر قد نشأ كله في مصر، وأعظم المردة التي عرفها الأوروبيون هذا المارد القديم هركوليس الذي نسبت إليه مآثر الجبابرة، وقد تعدد الأصل الذي ينسب إليه هذا المارد، إذ وصف بأنه ابن الرب زفس اليوناني، ولكن شيشرون الكاتب الروماني وصفه بأنه ابن النيل؛ فدل بذلك على أصله المصري، ويرى المستر ماسنجهام أن هركوليس هو نفسه «مولوك» الذي كان يعبد في بيبلوس المدينة المصرية في فينيقيا وأنه كان ملكا مدة حياته على الأرض ثم صار إلها بعد وفاته، وقد وصف هركوليس في إسبانيا بأنه ابن الشمس، وهذا هو وصف الفراعنة.
وكان المصريون يمزجون بين أجسام الحيوان والإنسان على ما نرى في الإسفنكس «أبي الهول» ومن هذا الخلط بين الأعضاء نشأت فكرة العفاريت التي لها وجوه إنسانية وحوافر بهيمية وأذناب ومخالب، وتسمى الصين بلاد «التنانين» وليس التنين عندها سوى جسم مؤلف من وجه إنسان وأعضاء إنسان له قدمين في أصابعهما مخالب سبع، وفي يده اليمنى طبرزين وفي اليسرى خنجر وعلى ظهره جناحان، ويرى المستر ماسنجهام أن التنين الصيني يمثل لنا فكرة العفاريت قبل أن يتم نشوءها في الخيال البشري، وهذا التنين الصيني هو إسفنكس مصري قد ناله بعض التنقيح.
بل يمكن أن نزيد على ذلك بأن فكرة الإسفنكس هذه وهي فكرة مصرية بحتة هي الأصل في رسم الملائكة التي تعطى وجوه الناس مع أجنحة الطير على نحو ما كان يتخيل أبناء القرون الوسطى في أوروبا. •••
المصريون هم الذين أكسبوا الذهب قيمته التي تعد أساسا أو أكبر حجر في أساس الأزمة الحاضرة، وهم الذين أوجدوا الحرب والرق والقوانين القاسية، وهم أخيرا الذين اخترعوا هذه الأساطير التي لا يزال يعانيها الإنسان في صور مختلفة.
هذا كله صحيح، ولكن لولاه لما عرف الإنسان الحضارة ولما خرج من الغابة وتعلم الزراعة؛ لأن هذه المساوئ كلها جاءت في غضون حضارة تتألف وتنمو وتتفرع، وهي إلى الآن لم تبلغ آخر حدودها الطبيعية للنمو، وليس شك أنها كلما تقدمت ستتخلص رويدا رويدا من هذه الأشواك.
صفحة غير معروفة